فصل: فَصْلٌ: شَرَائِطُ الصِّحَّةِ في البُيوعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: شَرَائِطُ الصِّحَّةِ في البُيوعِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ الصِّحَّةِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَعُمُّ الْبِيَاعَاتِ كُلَّهَا، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ.
(فَمِنْهَا): مَا ذَكَرْنَا مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ وَالنَّفَاذِ.
لِأَنَّ مَا لَا يَنْعَقِدُ وَلَا يَنْفُذُ الْبَيْعُ بِدُونِهِ لَا يَصِحُّ بِدُونِهِ ضَرُورَةً، إذْ الصِّحَّةُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الِانْعِقَادِ وَالنَّفَاذِ، فَكُلُّ مَا كَانَ شَرْطَ الِانْعِقَادِ وَالنَّفَاذِ كَانَ شَرْطَ الصِّحَّةِ ضَرُورَةً، وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَكُونُ شَرْطَ الصِّحَّةِ يَكُونُ شَرْطَ النَّفَاذِ وَالِانْعِقَادِ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يَنْعَقِدُ وَيَنْفُذُ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا وَثَمَنُهُ مَعْلُومًا عِلْمًا يَمْنَعُ مِنْ الْمُنَازَعَةِ.
فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَسَدَ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا جَهَالَةً لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا يَفْسُدْ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إذَا كَانَتْ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ كَانَتْ مَانِعَةً مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْبَيْعِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلَ: إذَا قَالَ: بِعْتُكَ شَاةً مِنْ هَذَا الْقَطِيعِ أَوْ ثَوْبًا مِنْ هَذَا الْعِدْلِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ مِنْ الْقَطِيعِ وَالثَّوْبَ مِنْ الْعِدْلِ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ لِتَفَاحُشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ شَاةٍ وَشَاةٍ، وَثَوْبٍ وَثَوْبٍ، فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ، فَإِنْ عَيَّنَ الْبَائِعُ شَاةً أَوْ ثَوْبًا وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ وَرَضِيَ بِهِ جَازَ وَيَكُونُ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ بَيْعٍ بِالْمُرَاضَاةِ؛ وَلِأَنَّ الْبِيَاعَاتِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى اسْتِيفَاءِ النُّفُوسِ إلَى انْقِضَاءِ آجَالِهَا وَالتَّنَازُعُ يُفْضِي إلَى التَّفَانِي فَيَتَنَاقَضُ؛ وَلِأَنَّ الرِّضَا شَرْطُ الْبَيْعِ وَالرِّضَا لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمَعْلُومِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ عِلْمًا مَانِعًا مِنْ الْمُنَازَعَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِهِمَا.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلَ، وَكَذَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَثْوَابِ الْأَرْبَعَةِ بِكَذَا وَذَكَرَ خِيَارَ التَّعْيِينِ أَوْ سَكَتَ عَنْهُ أَوْ قَالَ: بِعْتُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ أَوْ أَحَدَ هَذِهِ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ بِكَذَا وَسَكَتَ عَنْ الْخِيَارِ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ، وَلَوْ ذَكَرَ الْخِيَارَ بِأَنْ قَالَ: عَلَى أَنَّكَ بِالْخِيَارِ تَأْخُذُ أَيَّهَا شِئْتَ بِثَمَنِ كَذَا وَتَرُدُّ الْبَاقِيَ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ الْبَيْعُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَفْسُدُ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ أَحَدَهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ، كَمَا لَوْ بَاعَ أَحَدَ الْأَثْوَابِ الْأَرْبَعَةِ وَذَكَرَ الْخِيَارَ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ الِاسْتِدْلَال بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مِسَاسُ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخِيَارَيْنِ طَرِيقٌ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ، وَوُرُودُ الشَّرْعِ هُنَاكَ يَكُونُ وُرُودًا هَاهُنَا، وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِالتَّحَرِّي فِي ثَلَاثَةٍ لِاقْتِصَارِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ فِي الزِّيَادَةِ مَرْدُودًا إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا هَذَا الْبَيْعَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْخُلَ السُّوقَ فَيَشْتَرِيَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ خُصُوصًا الْأَكَابِرَ وَالنِّسَاءَ فَيَحْتَاجَ إلَى أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ وَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَتُهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ لِمَا عَسَى لَا يُوَافِقُ الْآمِرَ فَيَحْتَاجَ إلَى أَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدَ اثْنَيْنِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَيَحْمِلَهُمَا جَمِيعًا إلَى الْآمِرِ فَيَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالثَّمَنِ الْمَذْكُورِ وَيَرُدَّ الْبَاقِيَ، فَجَوَّزْنَا ذَلِكَ لِتَعَامُلِ النَّاسِ وَلَا تَعَامُلَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَقَوْلُهُ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ قُلْنَا: هَذَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ بِأَنْ قَالَ: عَلَى أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَقَدْ انْعَقَدَ الْبَيْعُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ لَا لِلْحَالِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ مَعْلُومٌ مَعَ أَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى اخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ فَلَا تَقَعُ الْمُنَازَعَةُ.
وَهَلْ يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ فِي هَذَا الْخِيَارِ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكُتُبِ فَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي أَيَّهُمَا شَاءَ وَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ: عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِأَلْفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِيَارَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ هَذَا الْبَيْعُ إلَّا بِذِكْرِ مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَهُمَا: الثَّلَاثُ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْمُدَّةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ الْأَوَّلِينَ: أَنَّ الْمَبِيعَ لَوْ كَانَ ثَوْبًا وَاحِدًا مُعَيَّنًا وَشُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ كَانَ بَيَانُ الْمُدَّةِ شَرْطَ الصِّحَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَذَا إذَا كَانَ وَاحِدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَرْكَ التَّوْقِيتِ تَجْهِيلٌ لِمُدَّةِ الْخِيَارِ وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُمَا جَمِيعًا، وَالثَّابِتُ بِخِيَارِ التَّعْيِينِ رَدُّ أَحَدِهِمَا وَهَذَا حُكْمُ خِيَارِ الشَّرْطِ فلابد مِنْ ذِكْرِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِ الْآخَرِينَ: إنَّ تَوْقِيتَ الْخِيَارِ فِي الْمُعَيَّنِ إنَّمَا كَانَ شَرْطًا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ فِيهِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ بِوَاسِطَةِ التَّأَمُّلِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فلابد مِنْ التَّوْقِيتِ لِيَصِحَّ اسْتِثْنَاءُ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ عَنْ ثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فِيهِ، وَخِيَارُ التَّعْيِينِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بَلْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرَ عَيْنٍ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ تَعَيُّنُ الْمَبِيعِ لَا غَيْرُ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ بَيَانُ الْمُدَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يُورَثُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَخِيَارُ التَّعْيِينِ يُورَثُ بِالْإِجْمَاعِ، إلَّا أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُمَا جَمِيعًا لَا حُكْمًا لِخِيَارِ الشَّرْطِ الْمَعْهُودِ لِيَشْتَرِطَ لَهُ بَيَانَ الْمُدَّةِ بَلْ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْمُضَافَ إلَى أَحَدِهِمَا غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْفَسْخِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارٍ مَعْهُودٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ دَابَّتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَوْ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَمْ يُعَيَّنْ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ مِنْ الَّذِي لَا خِيَارَ فِيهِ وَلَا بَيْنَ حِصَّةٍ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ فِيهِمَا جَمِيعًا لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ.
(أَمَّا) جَهَالَةُ الْمَبِيعِ: فَلِأَنَّ الْعَقْدَ فِي أَحَدِهِمَا بَاتٌّ وَفِي الْآخَرِ خِيَارٌ وَلَمْ يُعَيَّنْ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا، وَأَمَّا جَهَالَةُ الثَّمَنِ: فَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِالْحَزَرِ وَالظَّنِّ فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا وَالْمَبِيعُ مَجْهُولًا وَجَهَالَةُ أَحَدِهِمَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَجَهَالَتُهُمَا أَوْلَى.
وَكَذَا إذَا عَيَّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ، وَكَذَا إذَا بَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكِنْ لَمْ يُعَيِّنْ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ مِنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ وَلَوْ عَيَّنَ وَبَيَّنَ جَازَ الْبَيْعُ فِيهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ مَعْلُومَانِ وَيَكُونُ الْبَيْعُ فِي أَحَدِهِمَا بَاتًّا مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ وَفِي الْآخَرِ فِيهِ خِيَارٌ؛ لِأَنَّهُ هَكَذَا فَعَلَ فَإِذَا أَجَازَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ الْبَيْعَ فِيمَا لَهُ فِيهِ الْخِيَارُ أَوْ مَاتَ أَوْ مَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ حَتَّى تَمَّ الْبَيْعُ وَلَزِمَ الْمُشْتَرِيَ ثَمَنُهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا مَا لَمْ يَنْقُدْ ثَمَنَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لَمَّا سَقَطَ وَلَزِمَ الْعَقْدُ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُمَا جَمِيعًا شِرَاءً بَاتًّا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَكَذَا هَذَا وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا أَوْ دَابَّةً وَاحِدَةً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَوْ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ فِي نِصْفِهِ وَنِصْفُهُ بَاتٌّ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مَعْلُومٌ وَثَمَنُهُ مَعْلُومٌ أَيْضًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ بَاعَ عَدَدًا مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ بِدِرْهَمٍ وَالْجُمْلَةُ أَكْثَرُ مِمَّا سَمَّى فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَإِنْ عَزَلَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الْجُمْلَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ مُبْتَدَأٌ بِطَرِيقِ التَّعَاطِي وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: وَإِنَّمَا وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى هَذَا الْمَعْزُولِ حِينَ تَرَاضَيَا وَهَذَا نَصٌّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْمُرَاوَضَةِ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُ هَذَا الْعَبْدَ بِقِيمَتِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ثَمَنَهُ قِيمَتَهُ وَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى مِنْ هَذَا اللَّحْمِ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمَوْضِعَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ.
وَكَذَلِكَ إذَا بَيَّنَ الْمَوْضِعَ بِأَنْ قَالَ زِنْ لِي مِنْ هَذَا الْجَنْبِ رَطْلًا بِكَذَا أَوْ مِنْ هَذَا الْفَخِذِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّلَمِ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَجُوزُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَكَذَا إذَا بَاعَ بِحُكْمِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِحُكْمِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِمَاذَا يَحْكُمُ فُلَانٌ فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا وَكَذَا إذَا قَالَ بِعْتُكَ هَذَا بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ أَوْ بِقَفِيزَيْ شَعِيرٍ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ.
وَقِيلَ: هُوَ الْبَيْعَانِ فِي بَيْعٍ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعَيْنِ فِي بَيْعٍ» وَكَذَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ أَوْ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إلَى سَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ، وَقِيلَ: هُوَ الشَّرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ» وَلَوْ بَاعَ شَيْئًا بِرِبْحِ ده يازده وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي رَأْسَ مَالِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ حَتَّى يَعْلَمَ فَيَخْتَارَ أَوْ يَدَعَ هَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْلَمْ رَأْسُ مَالِهِ كَانَ ثَمَنُهُ مَجْهُولًا وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَإِذَا عَلِمَ وَرَضِيَ بِهِ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الْجَهَالَةُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَقَدْ زَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ وَلَهُ حُكْمُ حَالَةِ الْعَقْدِ فَصَارَ كَأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى إذَا افْتَرَقَا تَقَرَّرَ الْفَسَادُ.
وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْعِلْمِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَقَدْ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ بِالْهَلَاكِ خَرَجَ الْبَيْعُ عَنْ احْتِمَالِ الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْقَائِمَ دُونَ الْهَالِكِ فَتَقَرَّرَ الْفَسَادُ فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ، وَرَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ قَالَ: صَحَّ وَهَذِهِ أَمَارَةُ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ فَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ قَبْلَ أَنْ يَرْضَى الْمُشْتَرِي وَقَدْ قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ انْتَقَضَ الْبَيْعُ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا فَقَبَضَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ مَاتَ قَبْلَ الْعِلْمِ جَازَ الْعِتْقُ وَالْبَيْعُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِوُجُودِ الْهَلَاكِ حَقِيقَةً بِالْمَوْتِ وَبِالْإِعْتَاقِ فِي الْمَبِيعِ فَخَرَجَ الْبَيْعُ عَنْ احْتِمَالِ الْإِجَازَةِ فَتَأَكَّدَ الْفَسَادُ فَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ مَا عَلِمَ بِرَأْسِ الْمَالِ فَعَلَيْهِ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ، وَلَوْ عَتَقَ بِالْقَرَابَةِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالثَّمَنِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْقَرَابَةِ فَلَمْ يُوجَدْ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ فَكَانَ الْعِتْقُ بِهَا بِمَنْزِلَةِ هَلَاكِ الْعَبْدِ قَبْلَ الْعِلْمِ وَهُنَاكَ تَجِبُ الْقِيمَةُ كَذَا هاهنا وَكَذَا إذَا بَاعَ الشَّيْءَ بِرَقْمِهِ أَوْ رَأْسِ مَالِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي رَقْمَهُ وَرَأْسَ مَالِهِ فَهُوَ كَمَا إذَا بَاعَ شَيْئًا بِرِبْحِ ده يازده وَلَمْ يَعْلَمْ مَا اشْتَرَى بِهِ.
وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ صَحَّ وَإِنْ كَانَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ مَجْهُولًا لَكِنْ هَذِهِ جَهَالَةٌ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الصُّبْرَةَ الْوَاحِدَةَ مُتَمَاثِلَةُ الْقُفْزَانِ بِخِلَافِ الشَّاةِ مِنْ الْقَطِيعِ وَثَوْبٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ بَيْنَ شَاةٍ وَشَاةٍ تَفَاوُتًا فَاحِشًا وَكَذَا بَيْنَ ثَوْبٍ وَثَوْبٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ بَاعَ شَيْئًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ انْصَرَفَ إلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ خُصُوصًا إذَا كَانَ فِيهِ صِحَّةُ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ غَالِبَةٌ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ إذْ الْبَعْضُ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ جُمْلَةَ الثَّمَنِ إذَا كَانَتْ مَجْهُولَةً عِنْدَ الْعَقْدِ فِي بَيْعٍ مُضَافٍ إلَى جُمْلَةٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَّا فِي الْقَدْرِ الَّذِي جَهَالَتُهُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الذَّرْعِيَّاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ سَمَّى جُمْلَةَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْعَدَدِ وَالذَّرْعِ فِي الْبَيْعِ وَإِمَّا إنْ لَمْ يُسَمِّ، أَمَّا الْمَكِيلَاتُ: فَإِنْ لَمْ يُسَمِّ جُمْلَتَهَا بِأَنْ قَالَ بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ إلَّا فِي قَفِيزٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَجُوزُ فِي الْبَاقِي إلَّا إذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي جُمْلَةَ الْقُفْزَانِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِأَنْ كَالَهَا فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ كُلَّ قَفِيزٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى افْتَرَقَا عَنْ الْمَجْلِسِ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ فِي كُلِّ الصُّبْرَةِ كُلَّ قَفِيزٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ سَوَاءً عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ: كُلُّ قَفِيزٍ مِنْهَا بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَقْفِزَةٍ مِنْهَا بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْوَزْنُ الَّذِي لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ كَالزَّيْتِ وَتِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ إذَا لَمْ يُسَمِّ جُمْلَتَهَا.
(وَأَمَّا) الذَّرْعِيَّاتُ: فَإِنْ لَمْ يُسَمِّ جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ بِأَنْ قَالَ بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ هَذِهِ الْخَشَبَةَ كُلَّ ذِرَاعٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْكُلِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا إذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ فِي الْمَجْلِسِ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى إذَا تَفَرَّقَا تَقَرَّرَ الْفَسَادُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ وَيَلْزَمُهُ كُلُّ ذِرَاعٍ مِنْهُ بِدِرْهَمٍ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ: كُلُّ ذِرَاعَيْنِ بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ كَالْأَغْنَامِ وَالْعَبِيدِ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ كُلَّ شَاةٍ مِنْهَا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يُسَمِّ جُمْلَةَ الشِّيَاهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْوَزْنِيُّ الَّذِي فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ كَالْمَصُوغِ مِنْ الْأَوَانِي وَالْقُلْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ جُمْلَةَ الْبَيْعِ مَعْلُومَةٌ وَجُمْلَةَ الثَّمَنِ مُمْكِنُ الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْعَدَدِ وَالذَّرْعِ فَكَانَتْ هَذِهِ جَهَالَةٌ مُمْكِنَةَ الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ كَمَا إذَا بَاعَ بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ ذَهَبًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ جُمْلَةَ الثَّمَنِ مَجْهُولَةٌ حَالَةَ الْعَقْدِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَتُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ كَمَا إذَا بَاعَ الشَّيْءَ بِرَقْمِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ جَهَالَةَ الثَّمَنِ حَالَةَ الْعَقْدِ مَجْهُولَةٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ كُلَّ قَفِيزٍ مِنْ الصُّبْرَةِ بِدِرْهَمٍ وَجُمْلَةُ الْقُفْزَانِ لَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ حَالَةَ الْعَقْدِ فَلَا تَكُونُ جُمْلَةُ الثَّمَنِ مَعْلُومَةً ضَرُورَةً، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ وَالْمَذْرُوعِ.
وَقَوْلُهُمَا يُمْكِنُ رَفْعُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّهَا ثَابِتَةٌ لِلْحَالِ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ، وَعِنْدَنَا إذَا ارْتَفَعَتْ فِي الْمَجْلِسِ يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ إلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ وَإِنْ طَالَ فَلَهُ حُكْمُ سَاعَةِ الْعَقْدِ، وَالْبَيْعُ بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ ذَهَبًا مَمْنُوعٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْمِثْلِيَّاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ وَجْهٍ حَيْثُ جَوَّزَ الْبَيْعَ فِي وَاحِدٍ فِي بَابِ الْأَمْثَالِ وَلَمْ يُجِزْ فِي غَيْرِهَا أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الصِّحَّةِ جَهَالَةُ الثَّمَنِ لِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَجَهَالَةُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ غَيْرُ مَانِعَةٍ مَعَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ أَلَا تَرَى لَوْ اشْتَرَى قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ ابْتِدَاءً جَازَ؟ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ كَلِمَةِ.
(كُلَّ) صُرِفَتْ إلَى الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي صِيغَةِ الْعَامِّ إذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِعُمُومِهَا أَنَّهَا تُصْرَفُ إلَى الْخُصُوصِ عِنْدَ إمْكَانِ الصَّرْفِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ شَاةٍ مِنْ قَطِيعٍ وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ ذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ وَشَاةٍ مِنْ قَطِيعٍ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً فَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ كَلِمَةِ (كُلَّ) فَفَسَدَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، وَلَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ كُلَّ شَاتَيْنِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْكُلِّ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي عَدَدَ الْجُمْلَةِ فِي الْمَجْلِسِ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ فُرِّقَ بَيْنَ الْمَعْدُودِ الْمُتَفَاوِتِ وَبَيْنَ الْمَذْرُوعِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ الْمُتَقَارِبِ أَنَّ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ هُنَاكَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِذَا عَلِمَ فِي الْمَجْلِسِ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، وَهَاهُنَا لَا يَجُوزُ فِي الِاثْنَيْنِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ عَلِمَ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ وَهِيَ مُحْتَمِلَةُ الِارْتِفَاعِ وَالزَّوَالِ ثَمَّةَ بِالْعِلْمِ فِي الْمَجْلِسِ فَكَانَ الْمَانِعُ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ، وَالْجَهَالَةُ هاهنا لَا تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى كَمْ هُوَ، وَلَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ جُمْلَةَ الصُّبْرَةِ وَلَكِنَّهُ سَمَّى جُمْلَةَ الثَّمَنِ، لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ وَلَمْ تُوجَدْ حَيْثُ سَمَّاهَا وَصَارَتْ تَسْمِيَةُ جُمْلَةِ الثَّمَنِ بِمَنْزِلَةِ تَسْمِيَةِ جُمْلَةِ الْمَبِيعِ، وَلَوْ سَمَّى جُمْلَةَ الْمَبِيعِ لَجَازَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ كَذَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يُسَمِّ جُمْلَةَ الْمَبِيعِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ، فَأَمَّا إذَا أَسْمَاهَا بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، أَوْ قَالَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقُفْزَانِ ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ أَوْ سَمَّى لِلْكُلِّ ثَمَنًا وَاحِدًا هُمَا سَوَاءٌ، فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ الْمَبِيعِ مَعْلُومَةٌ وَجُمْلَةَ الثَّمَنِ مَعْلُومَةٌ ثُمَّ إنْ وَجَدَهَا كَمَا سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ وَجَدَهَا أَزْيَدَ مِنْ مِائَةِ قَفِيزٍ فَالزِّيَادَةُ لَا تُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي بَلْ تُرَدُّ إلَى الْبَائِعِ وَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي إلَّا قَدْرُ مَا سَمَّى وَهُوَ مِائَةُ قَفِيزٍ وَلَا خِيَارَ لَهُ وَإِنْ وَجَدَهَا أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ قَفِيزٍ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ وَطَرَحَ حِصَّةَ النُّقْصَانِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيمَا لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ لَا تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ بَلْ هِيَ أَصْلٌ فلابد وَأَنْ يُقَابِلَهُ الثَّمَنُ، وَلَا ثَمَنَ لِلزِّيَادَةِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ مِلْكَ الْبَائِعِ فَيُرَدُّ إلَيْهِ، وَالنُّقْصَانُ فِيهِ نُقْصَانُ الْأَصْلِ لَا نُقْصَانُ الصِّفَةِ فَإِذَا وَجَدَهَا أَنْقَصَ مِمَّا سَمَّى؛ نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةَ النُّقْصَانِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى مِائَةِ قَفِيزٍ وَلَمْ تُسَلَّمْ لَهُ فَأَوْجَبَ خَلَلًا فِي الرِّضَا فَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ التَّرْكِ وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْمَوْزُونَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِي تَنْقِيصِهَا ضَرَرٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا لَا تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا وَكَذَلِكَ الْمَعْدُودَاتُ الْمُتَقَارِبَةُ.
(وَأَمَّا) الْمَذْرُوعَاتِ مِنْ الثَّوْبِ وَالْأَرْضِ وَالْخَشَبِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ سَمَّى لِجُمْلَةِ الذُّرْعَانِ ثَمَنًا وَاحِدًا وَلَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ ذِرَاعٍ مِنْهَا عَلَى حِدَةٍ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ وَثَمَنَهُ مَعْلُومَانِ ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ مِثْلَ مَا سَمَّى لَزِمَهُ الثَّوْبُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ وَجَدَهُ أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا فَالزِّيَادَةُ سَالِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ وَجَدَهُ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ لَا يَطْرَحُ لِأَجْلِ النُّقْصَانِ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَرْقٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِي تَنْقِيصِهَا ضَرَرٌ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ زِيَادَةَ الذَّرْعِ فِي الذَّرْعِيَّاتِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الصِّفَةِ كَصِفَةِ الْجَوْدَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهَا وَالثَّمَنُ يُقَابِلُ الْأَصْلَ لَا الصِّفَةَ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الصِّفَةِ أَنَّ وُجُودَهَا يُوجِبُ جَوْدَةً فِي الْبَاقِي وَفَوَاتَهَا يَسْلُبُ صِفَةَ الْجَوْدَةِ وَيُوجِبُ الرَّدَاءَةَ فَتُلْحَقُ الزِّيَادَةُ بِالْجَوْدَةِ وَالنُّقْصَانُ بِالرَّدَاءَةِ حُكْمًا وَالْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ صِفَةٌ، وَالصِّفَةُ تُرَدُّ عَلَى الْأَصْلِ دُونَ الصِّفَةِ، إلَّا أَنَّ الصِّفَةَ تُمْلَكُ تَبَعًا لِلْمَوْصُوفِ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً قَائِمَةً بِهِ فَإِذَا زَادَ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ رَدِيئًا فَإِذَا هُوَ جَيِّدٌ، كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكَاتِبٍ أَوْ لَيْسَ بِخَيَّاطٍ فَوَجَدَهُ كَاتِبًا أَوْ خَيَّاطًا أَوْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ أَعْوَرُ فَوَجَدَهُ سَلِيمَ الْعَيْنَيْنِ أَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا ثَيِّبٌ فَوَجَدَهَا بِكْرًا؛ تُسَلَّمُ لَهُ وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ كَذَا هَذَا وَإِذَا نَقَصَ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ جَيِّدٌ فَوَجَدَهُ رَدِيئًا أَوْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ خَبَّازٌ أَوْ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ فَوَجَدَهُ غَيْرَ كَاتِبٍ وَلَا خَبَّازٍ وَلَا صَحِيحَ الْعَيْنَيْنِ أَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فَوَجَدَهَا ثَيِّبًا؛ لَا يَطْرَحُ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ لَكِنْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ الَّتِي لَا ضَرَرَ فِيهَا إذَا نَقَصَتْ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا غَيْرُ مُلْحَقَةٍ بِالْأَوْصَافِ؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ بِنَفْسِهَا حَقِيقَةً.
وَالْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ إلَّا أَنَّهَا أُلْحِقَتْ بِالصِّفَةِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ وُجُودَهَا يُوجِبُ الْجَوْدَةَ وَالْكَمَالَ لِلْبَاقِي وَفَوَاتَهَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ وَالرَّدَاءَةَ لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى هاهنا مُنْعَدِمٌ فَبَقِيَتْ أَصْلًا بِنَفْسِهَا حَقِيقَةً وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ ذِرَاعٍ مِنْهَا ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَذْرُعٍ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ مِثْلَ مَا سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَلَزِمَهُ الثَّوْبُ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ وَجَدَهُ أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ أَخَذَ كُلَّهُ بِأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَإِنْ وَجَدَهُ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ طَرَحَ حِصَّةَ النُّقْصَانِ دِرْهَمًا وَأَخَذَهُ بِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا يُشْكِلُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ زِيَادَةَ الذَّرْعِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ لَهَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْأَصْلَ دُونَ الْوَصْفِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ سَالِمَةً لِلْمُشْتَرِي وَلَا خِيَارَ لَهُ وَلَا يَطْرَحُ لِأَجْلِ النُّقْصَانِ شَيْئًا كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْأَصْلَ دُونَ الصِّفَةِ بِمَنْزِلَةِ زِيَادَةِ الْجَوْدَةِ وَنُقْصَانِ الرَّدَاءَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَحَلُّ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنَّ الذَّرْعَ فِي الْمَذْرُوعَاتِ إنَّمَا يَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذَا لَمْ يُفْرِدْ كُلَّ ذِرَاعٍ بِثَمَنٍ عَلَى حِدَةٍ.
(فَأَمَّا) إذَا أَفْرَدَ بِهِ فَلَا يَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ مُطْلَقًا بَلْ يَكُونُ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ وَصِفَةً مِنْ وَجْهٍ: فَمِنْ حَيْثُ إنَّ التَّبْعِيضَ فِيهَا يُوجِبُ تَعْيِيبَ الْبَاقِي؛ كَانَتْ الزِّيَادَةُ صِفَةً بِمَنْزِلَةِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَمَّى لِكُلِّ ذِرَاعٍ ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ؛ كَانَ كُلُّ ذِرَاعٍ مَعْقُودًا عَلَيْهِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ صِفَةً مِنْ وَجْهٍ: فَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا صِفَةٌ كَانَتْ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْأَصْلَ لَا الصِّفَةَ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَصْلٌ لَا يُسَلَّمُ لَهُ إلَّا بِزِيَادَةِ ثَمَنٍ اعْتِبَارًا لِلْجِهَتَيْنِ جَمِيعًا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي أَخْذِ الزِّيَادَةِ وَتَرْكِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ الْأَخْذُ، لَا مَحَالَةَ يَلْزَمُهُ زِيَادَةُ ثَمَنٍ؛ لَمْ يَكُنْ لُزُومُهَا ظَاهِرًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَاخْتَلَّ رِضَاهُ فَوَجَبَ الْخِيَارُ وَفِي النُّقْصَانِ إنْ شَاءَ طَرَحَ قَدْرَ النُّقْصَانِ وَأَخَذَ الْبَاقِيَ اعْتِبَارًا لِجِهَةِ الْأَصَالَةِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ وَأَوْجَبَ خَلَلًا فِي الرِّضَا وَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ هَذَا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ ذِرَاعًا تَامًّا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ دُونَ ذِرَاعٍ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ وَذُكِرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ اخْتِلَافُ أَقَاوِيلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ فِي كَيْفِيَّةِ الْخِيَارِ فِيهِ: فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَرَّقَا بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَعَلَ زِيَادَةَ نِصْفِ ذِرَاعٍ بِمَنْزِلَةِ زِيَادَةِ ذِرَاعٍ كَامِلٍ فَقَالَ: إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَجَعَلَ نُقْصَانَ نِصْفِ ذِرَاعٍ كَلَا نُقْصَانَ لَكِنْ جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ فَقَالَ: إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَلَا يَطْرَحُ مِنْ الثَّمَنِ شَيْئًا لِأَجْلِ النُّقْصَانِ وَمُحَمَّدٌ جَعَلَ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ فَجَعَلَ زِيَادَةَ نِصْفِ ذِرَاعٍ كَلَا زِيَادَةَ فَقَالَ: يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَجَعَلَ نُقْصَانَ نِصْفِ ذِرَاعٍ كَنُقْصَانِ ذِرَاعٍ كَامِلٍ وَقَالَ: إنْ شَاءَ أَخَذَ بِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ.
(وَأَمَّا) أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَسَوَّى بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَقَالَ فِي زِيَادَةِ نِصْفِ ذِرَاعٍ: يُزَادُ عَلَى الثَّمَنِ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَلَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَقَالَ فِي نُقْصَانِ نِصْفِ ذِرَاعٍ: يَنْقُصُ مِنْ الثَّمَنِ نِصْفَ دِرْهَمٍ وَلَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ اعْتِبَارُ الْجُزْءِ بِالْكُلِّ إلَّا أَنَّهُمَا كَأَنَّهُمَا اسْتَحْسَنَا لِتَعَامُلِ النَّاسِ؛ فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ زِيَادَةَ نِصْفِ ذِرَاعٍ بِمَنْزِلَةِ ذِرَاعٍ تَامٍّ وَنُقْصَانَ نِصْفِ ذِرَاعٍ كَلَا نُقْصَانَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْعَادَاتِ فِي بِيَاعَاتِهِمْ وَأَشْرِيَتِهِمْ لَا يَعُدُّونَ نُقْصَانَ نِصْفِ ذِرَاعٍ نُقْصَانًا بَلْ يَحْسِبُونَهُ ذِرَاعًا تَامًّا، فَبَنَى الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى تَعَامُلِ النَّاسِ وَجَعَلَ مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ لِمَا أَنَّ الْبَاعَةَ يُسَامِحُونَ فِي زِيَادَةِ نِصْفٍ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسَمَّى فِي الْبَيْعِ عَادَةً وَلَا يَعُدُّونَهُ زِيَادَةً؛ فَكَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ عَادَةً كَأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ وَكَذَا يُسَامِحُونَ فَيَعُدُّونَ نُقْصَانَ نِصْفِ ذِرَاعٍ فِي الْعَادَاتِ نُقْصَانَ ذِرَاعٍ كَامِلٍ؛ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِتَعَامُلِ النَّاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ جَوَابِهِمَا لِاخْتِلَافِ عَادَاتِ النَّاسِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ الْمَذْرُوعَاتِ مِنْ الْأَرْضِ وَالْخَشَبِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ إنْ لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ ذِرَاعٍ ثَمَنًا بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الْأَرْضَ عَلَى أَنَّهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ إنْ وَجَدَهَا مِثْلَ مَا سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَيَلْزَمْهُ الْأَرْضُ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ وَجَدَهَا أَزْيَدَ فَالزِّيَادَةُ سَالِمَةٌ لَهُ وَلَا خِيَارَ وَإِنْ وَجَدَهَا أَنْقَصَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ زِيَادَةَ الذَّرْعِ فِي الذَّرْعِيَّاتِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الصِّفَاتِ وَالثَّمَنُ يُقَابِلُ الْأَصْلَ دُونَ الصِّفَةِ وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ ذِرَاعٍ ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ بِأَنْ قَالَ: كُلُّ ذِرَاعٍ بِكَذَا؛ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنْ وَجَدَهَا مِثْلَ مَا سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَزْيَدَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ أَخَذَ الزِّيَادَةَ بِثَمَنِهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ زِيَادَةُ ثَمَنٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ لِذَا الْعَقْدِ وَإِنْ وَجَدَهُ أَنْقَصَ تَسْقُطْ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ وَلَهُ الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الثَّوْبِ وَعَلَى هَذَا الْخَشَبُ وَغَيْرُهُ مِنْ الذَّرْعِيَّاتِ وَعَلَى هَذَا الْمَوْزُونَاتُ الَّتِي فِي تَبْعِيضِهَا ضَرَرٌ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ السَّبِيكَةَ مِنْ الذَّهَبِ عَلَى أَنَّهَا مِثْقَالَانِ بِكَذَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ثُمَّ إنْ وُجِدَ عَلَى مَا سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَإِنْ وَجَدَهُ أَزْيَدَ أَوْ أَنْقَصَ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الذَّرْعِيَّاتِ وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ مَصُوغًا مِنْ نُحَاسٍ أَوْ صُفْرٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِيهِ كَذَا مَنًّا بِكَذَا دِرْهَمًا فَوَجَدَهُ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِي مِثْلِهِ يَكُونُ مُلْحَقًا بِالصِّفَةِ بِمَنْزِلَةِ الذَّرْعِ فِي الذَّرْعِيَّاتِ؛ لِأَنَّ تَبْعِيضَهُ يُوجِبُ تَعْيِيبَ الْبَاقِي وَهَذَا حَدُّ الصِّفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَوْ بَاعَ مَصُوغًا مِنْ الْفِضَّةِ عَلَى أَنَّ وَزْنَهُ مِائَةٌ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَلَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ عَشَرَةٍ ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ بِأَنْ قَالَ: بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَلَمْ يَقُلْ: كُلُّ وَزْنِ عَشَرَةٍ بِدِينَارٍ وَتَقَابَضَا وَافْتَرَقَا؛ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ عَلَى مَا سَمَّى؛ فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَلَا خِيَارَ وَإِنْ وَجَدَهُ أَزْيَدَ بِأَنْ كَانَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مَثَلًا فَالْكُلُّ لِلْمُشْتَرِي بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَلَا يُزَادُ فِي الثَّمَنِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ وَالصِّفَاتُ الْمَحْضَةُ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ، وَإِنْ وَجَدَهُ تِسْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ عَشَرَةٍ ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ عَلَى أَنَّ وَزْنَهُ مِائَةٌ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، كُلُّ وَزْنِ عَشَرَةٍ بِدِينَارٍ وَتَقَابَضَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ عَلَى مَا سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَلَا خِيَارَ، وَإِنْ وَجَدَ وَزْنَهُ أَزْيَدَ بِأَنْ كَانَ مِائَةً وَخَمْسِينَ؛ نُظِرَ فِي ذَلِكَ إنْ عَلِمَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَلَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ زَادَ فِي الثَّمَنِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ وَأَخَذَ كُلَّهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ لَهَا حُكْمُ سَاعَةِ الْعَقْدِ، وَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي ثُلُثِ الْمَصُوغِ لِانْعِدَامِ التَّقَابُضِ فِيهِ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي: إنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُلَّ وَاسْتَرَدَّ الدَّنَانِيرَ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ وَإِنْ وَجَدَ وَزْنَهُ خَمْسِينَ وَعَلِمَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَاسْتَرَدَّ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ مَصُوغًا مِنْ ذَهَبٍ بِدَرَاهِمَ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ وَلَوْ بَاعَ مَصُوغًا مِنْ الْفِضَّةِ بِجِنْسِهَا أَوْ بَاعَ مَصُوغًا مِنْ الذَّهَبِ بِجِنْسِهِ مِثْلَ وَزْنِهِ عَلَى أَنَّ وَزْنَهُ مِائَةٌ بِمِائَةٍ ثُمَّ وَجَدَهُ أَزْيَدَ مِمَّا سَمَّى فَإِنْ عَلِمَ بِالزِّيَادَةِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ؛ فَلَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ زَادَ فِي الثَّمَنِ قَدْرَ وَزْنِ الزِّيَادَةِ وَأَخَذَ الْكُلَّ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لَهُ حُكْمُ حَالَةِ الْعَقْدِ، وَإِنْ عَلِمَ بِهَا بَعْدَ التَّفَرُّقِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ التَّقَابُضَ شَرْطُ بَقَاءِ الصَّرْفِ عَلَى الصِّحَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي قَدْرِ الزِّيَادَةِ وَإِنْ وَجَدَ أَقَلَّ مِمَّا سَمَّى فَلَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ رَضِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَاسْتَرَدَّ فَضْلَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُلَّ وَاسْتَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ سَمَّى الْجُمْلَةَ أَوْ سَمَّى لِكُلِّ وَزْنِ دِرْهَمًا دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْوَزْنِ وَالْجِنْسِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ حَقِيقَةً إلَّا الْجُمْلَةَ.
(وَأَمَّا) الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ كَالْغَنَمِ وَالْعَبِيدِ وَنَحْوِهَا بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ شَاةٍ بِكَذَا فَإِنْ وَجَدَهُ عَلَى مَا سَمَّى؛ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَإِنْ وَجَدَهُ أَزْيَدَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ ذَكَرَ لِلْكُلِّ ثَمَنًا وَاحِدًا بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الْقَطِيعَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ شَاةٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ ذَكَرَ لِكُلِّ شَاةٍ فِيهَا ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ بِأَنْ قَالَ: كُلُّ شَاةٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ أَصْلٌ فِي كَوْنِهَا مَعْقُودًا عَلَيْهَا وَالزِّيَادَةُ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهَا ثَمَنٌ؛ فَلَمْ تَكُنْ مَبِيعَةً وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَكَانَ الْبَاقِي مَجْهُولًا ضَرُورَةَ جَهَالَةِ الزِّيَادَةِ فَيَصِيرُ بَائِعًا مِائَةَ شَاةٍ مِنْ مِائَةِ شَاةٍ وَوَاحِدَةٍ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا، وَجَهَالَةُ الْمَبِيعِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ سَمَّى لَهُ ثَمَنًا أَوْ لَمْ يُسَمِّ.
وَإِنْ وَجَدَهُ أَقَلَّ مِمَّا سَمَّى: فَإِنْ كَانَ لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ثَمَنًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى طَرْحِ ثَمَنِ شَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَهُوَ مَجْهُولُ التَّفَاوُتِ فَاحِشٌ بَيْنَ شَاةٍ وَشَاةٍ فَصَارَ ثَمَنُ الْبَاقِي مَجْهُولًا ضَرُورَةَ جَهَالَةِ حِصَّةِ الشَّاةِ النَّاقِصَةِ، وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ؛ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِحِصَّةِ الْبَاقِي مِنْهَا؛ لِأَنَّ حِصَّتَهُ الزَّائِدَةَ مَعْلُومَةٌ وَحِصَّةُ الْبَاقِي مَعْلُومَةٌ فَالْفَسَادُ مِنْ أَيْنَ؟ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هَذَا مَذْهَبُهُمَا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْكُلِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُ أَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا أُضِيفَتْ إلَى مَا يَحْتَمِلُ الْعَقْدَ وَإِلَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ؛ فَالْفَسَادُ يَشِيعُ فِي الْكُلِّ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ هَذَا بِلَا خِلَافٍ وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يُذْكَرْ الْخِلَافُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُضَافَ إلَى مَوْجُودٍ يَجُوزُ أَنْ يَفْسُدَ لِمَعْنًى يُوجِبُ الْفَسَادَ ثُمَّ يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْمَعْدُومُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَقْدَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا يُوصَفُ الْعَقْدُ الْمُضَافُ إلَيْهِ بِالْفَسَادِ لِيَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، بَلْ لَمْ تَصِحَّ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ فَيَبْقَى مُضَافًا إلَى الْمَوْجُودِ فَيَصِحَّ لَكِنْ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِمَا سَمَّى مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ وَلَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ عَلَى أَنَّهَا مِائَةٌ، كُلُّ شَاتَيْنِ مِنْهَا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ.
وَإِنْ وَجَدَهُ عَلَى مَا سَمَّى؛ لِأَنَّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الشَّاتَيْنِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حِصَّةَ كُلِّ شَاةٍ مِنْهَا مِنْ الثَّمَنِ إلَّا بَعْدَ ضَمِّ شَاةٍ أُخْرَى إلَيْهَا وَلَا يَعْلَمُ أَيَّةَ شَاةٍ يَضُمُّ إلَيْهَا لِيَعْلَمَ حِصَّتَهَا؛ لِأَنَّهُ إنْ ضَمَّ إلَيْهَا أَرْدَأَ مِنْهَا كَانَتْ حِصَّتُهَا أَكْثَرَ وَإِنْ ضَمَّ إلَيْهَا أَجْوَدَ مِنْهَا كَانَتْ حِصَّتُهَا أَقَلَّ لِذَلِكَ فَسَدَ الْبَيْعُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ بَاعَ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ أَوْ مِنْ هَذَا الْحَمَّامِ أَوْ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: جَائِزٌ وَلَوْ بَاعَ عَشَرَةَ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ؛ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَى الذِّرَاعِ فَقَالَا: إنَّهُ اسْمٌ فِي الْعُرْفِ لِلسَّهْمِ الشَّائِعِ وَلَوْ بَاعَ عَشَرَةَ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ جَازَ فَكَذَا هَذَا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: الذِّرَاعُ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِمَا يُذْرَعُ بِهِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَذْرُوعُ ذِرَاعًا مَجَازًا إطْلَاقًا لِاسْمِ الْفِعْلِ عَلَى الْمَفْعُولِ.
فَكَانَ بَيْعُ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ دَارٍ مَعْنَاهُ: بَيْعُ قَدْرِ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِمَّا يَحِلُّهُ الذِّرَاعُ الْحَقِيقِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا مَحَلًّا مُعَيَّنًا فَكَانَ الْمَبِيعُ قَدْرَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، مُعَيَّنٌ مِنْ الدَّارِ وَهُوَ الَّذِي يَحِلُّهُ الذِّرَاعُ الْحَقِيقِيُّ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ الْحُلُولِ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ بِخِلَافِ السَّهْمِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلشَّائِعِ وَهُوَ جُزْءٌ مَعْلُومٌ مِنْ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالْعُشْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَبَيْعُ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ مِنْ الدَّارِ هُوَ بَيْعُ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْهَا وَهُوَ عُشْرُهَا، فَقَدْ بَاعَ جُزْءًا مَعْلُومًا مِنْهَا فَيَجُوزُ بِخِلَافِ الذِّرَاعِ فَإِنَّ قَدْرَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالْحُلُولِ عَلَى مَا مَرَّ فَقَبْلَهُ يَكُونُ مَجْهُولًا فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا فَلَمْ يَصِحَّ فَوَضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لِأَبِي حَنِيفَةَ.
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّج ضَرْبَةُ الْغَائِصِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْغَائِصُ لِلتَّاجِرِ: أَغُوصُ لَك غَوْصَةً فَمَا أَخْرَجْته فَهُوَ لَك بِكَذَا وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ» وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ أَجْنَاسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَبَيْعُ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ مُنْفَرِدًا جَائِزٌ وَبَيْعُ مَسِيلِ الْمَاءِ وَهِبَتُهُ مُنْفَرِدًا فَاسِدٌ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الطَّرِيقَ مَعْلُومُ الطُّولِ وَالْعَرْضِ؛ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا فَجَازَ بَيْعُهُ بِخِلَافِ الْمَسِيلِ فَإِنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَشْغَلُ الْمَاءَ مِنْ النَّهْرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا فَلَمْ يَجُزْ.
(وَأَمَّا) الْعِلْمُ بِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالذَّاتِ وَالْجَهْلُ بِهَا هَلْ هُوَ مَانِعٌ مِنْ الصِّحَّةِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ بِشَرْطِ الصِّحَّةِ، وَالْجَهْلُ بِهَا لَيْسَ بِمَانِعٍ مِنْ الصِّحَّةِ لَكِنَّهُ شَرْطُ اللُّزُومِ فَيَصِحُّ بَيْعُ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَوْنُ الْمَبِيعِ مَعْلُومَ الذَّاتِ وَالصِّفَةِ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ جَهَالَةَ الذَّاتِ إنَّمَا مَنَعَتْ صِحَّةَ الْعَقْدِ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ تَخْتَلِفُ رَغَبَاتُ النَّاسِ فِيهَا لِاخْتِلَافِ مَالِيَّتِهَا فَالْبَائِعُ إذَا سَلَّمَ عَيْنًا فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَطْلُبَ الْمُشْتَرِي عَيْنًا أُخْرَى أَجْوَدَ مِنْهَا بِاسْمِ الْأُولَى فَيَتَنَازَعَانِ وَجَهَالَةُ الْوَصْفِ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ عَنْ الْمَجْلِسِ إذَا أَحْضَرَهُ الْبَائِعُ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي: هَذَا لَيْسَ عَيْنَ الْمَبِيعِ بَلْ مِثْلَهُ مِنْ جِنْسِهِ فَيَقَعَانِ فِي الْمُنَازَعَةِ بِسَبَبِ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ وَلِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ يُوجِبُ تَمَكُّنَ الْغَرَرِ فِي الْبَيْعِ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرٌ» وَبَيَانُ تَمَكُّنِ الْغَرَرِ أَنَّ الْغَرَرَ هُوَ الْخَطَرُ وَفِي هَذَا الْبَيْعِ خَطَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: فِي أَصْلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: فِي وَصْفِهِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْوُجُودِ إذَا كَانَ غَائِبًا هُوَ الْخَبَرُ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَيَتَرَدَّدُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَالثَّالِثُ فِي وُجُودِ التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِهِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ وَقْتُ نَقْدِ الثَّمَنِ وَقَدْ يَتَّفِقُ النَّقْدُ وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ، وَالْغَرَرُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ يَكْفِي لِفَسَادِ الْعَقْدِ فَكَيْفَ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ؟ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» وَعِنْدَ كَلِمَةُ حَضْرَةٍ وَالْغَيْبَةُ تُنَافِيهَا، وَالْخِلَافُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ خِلَافٌ وَاحِدٌ.
(وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَنَصٍّ خَاصٍّ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ» وَلَا خِيَارَ شَرْعًا إلَّا فِي بَيْعٍ مَشْرُوعٍ وَلِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلٍّ هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ فَيَصِحُّ كَشِرَاءِ الْمَرْئِيِّ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُودَ التَّصَرُّفِ حَقِيقَةً بِوُجُودِ رُكْنِهِ، وَوُجُودُهُ شَرْعًا لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَحُلُولِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَقَوْلُهُ: جَهَالَةُ الْوَصْفِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِي خَبَرِهِ حَيْثُ اشْتَرَاهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُكَذِّبُهُ وَدَعْوَى الْغَرَرِ مَمْنُوعَةٌ فَإِنَّ الْغَرَرَ هُوَ الْخَطَرُ الَّذِي اسْتَوَى فِيهِ طَرَفُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ بِمَنْزِلَةِ الشَّكِّ، وَهَاهُنَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الْوُجُودِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ بِالْخَبَرِ الرَّاجِحِ صِدْقُهُ عَلَى كَذِبِهِ؛ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَرٌ عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْغَرَرَ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْخَطَرِ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ كُلَّ غَرَرٍ يُفْسِدُ الْعَقْدَ؟ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ هُوَ الْخَطَرُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْغَرَرِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى الْغَرَرِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بِالتَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ أَوْ بِالْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ عَنْ نَفْسِهِ لَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ مَالِكِهِ أَوْ بَيْعُ شَيْءٍ مُبَاحٍ عَلَى أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ فَيَمْلِكَهُ فَيُسَلِّمَهُ وَهَذَا يُوَافِقُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ غَرَرٌ».
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ: إذَا بَاعَ شَيْئًا لَمْ يَرَهُ الْبَائِعُ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا جَازَ عِنْدَنَا فَهَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ؟ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ نَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ شِرَاءُ الْأَعْمَى وَبَيْعُهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا وُلِدَ أَعْمَى لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا فَرَأَى الشَّيْءَ ثُمَّ عَمِيَ فَاشْتَرَاهُ جَازَ وَمَا قَالَهُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ قَالَ لِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ «إذَا بَايَعَتْ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» وَكَانَ حَبَّانُ ضَرِيرًا.
(وَأَمَّا) الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْعُمْيَانَ فِي كُلِّ زَمَانٍ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُمْنَعُوا مِنْ بِيَاعَاتِهِمْ وَأَشْرِيَتِهِمْ بَلْ بَايَعُوا فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَإِذَا جَازَ شِرَاؤُهُ وَبَيْعُهُ فَلَهُ الْخِيَارُ فِيمَا اشْتَرَى وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيمَا بَاعَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ كَالْبَصِيرِ ثُمَّ بِمَاذَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ؟ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا مُغَيَّبًا فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَالْبَصَلِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِهَا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إذَا قَلَعَهُ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ أَصْلًا.
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَنَقُولُ: الْعِلْمُ بِالْمَبِيعِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّعَيُّنَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهَا إلَّا إذَا كَانَ دَيْنًا كَالْمُسْلَمِ فِيهِ فَيَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ عِنْدَنَا مَجَازٌ عَنْ تَسْمِيَةِ جِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَنَوْعِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرَ أَنَّ الْمَبِيعَ إنْ كَانَ أَصْلًا لابد مِنْ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِيَصِيرَ مَعْلُومًا، وَإِنْ كَانَ تَبَعًا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْإِشَارَةِ إلَى الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ كَمَا لَا يُفْرَدُ بِعِلَّةٍ عَلَى حِدَةٍ، لَا يُفْرَدُ بِشَرْطٍ عَلَى حِدَةٍ إذْ لَوْ أُفْرِدَ؛ لَانْقَلَبَ أَصْلًا وَهَذَا قَلْبُ الْحَقِيقَةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: إذَا بَاعَ جَارِيَةً حَامِلًا مِنْ غَيْرِ مَوْلَاهَا أَوْ بَهِيمَةً حَامِلًا؛ دَخَلَ الْحَمْلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأُمِّ كَسَائِرِ أَطْرَافِهَا، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ، وَلَوْ بَاعَ عَقَارًا دَخَلَ مَا فِيهَا مِنْ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ إلَّا بِقَرِينَةٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي بَيْعِ الْعَقَارِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ أَرْضًا أَوْ كَرْمًا أَوْ دَارًا أَوْ مَنْزِلًا أَوْ بَيْتًا، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي بَيْعِهِ الْحُقُوقَ وَلَا الْمَرَافِقَ وَلَا ذَكَرَ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْهَا، وَإِمَّا إنْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ أَرْضًا وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ الْقَرَائِنِ؛ دَخَلَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ وَلَمْ يَدْخُلْ الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثِمَارُ سَائِرِ الْأَشْجَارِ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ ثَمَرُ النَّخْلِ إذَا أُبِّرَ فَأَمَّا إذَا لَمْ يُؤَبَّرْ؛ يَدْخُلْ.
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ» قَيَّدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِلْكَ الْبَائِعِ فِي الثَّمَرَةِ بِوَصْفِ التَّأْبِيرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ؛ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا نَخْلٌ فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ» جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الثَّمَرَةَ لِلْبَائِعِ مُطْلَقًا عَنْ وَصْفٍ وَشَرْطٍ فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ بِالتَّأْبِيرِ وَعَدَمِهِ وَلِأَنَّ النَّخْلَ اسْمٌ لِذَاتِ الشَّجَرَةِ فَلَا يَدْخُلُ مَا عَدَاهُ إلَّا بِقَرِينَةٍ زَائِدَةٍ وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ ثِمَارُ سَائِرِ الْأَشْجَارِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا رُوِيَ؛ لِأَنَّ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ بِوَصْفٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمَوْصُوفِ بِخِلَافِهِ، بَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ مَسْكُوتًا مَوْقُوفًا عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ وَقَدْ قَامَ، وَهُوَ مَا رَوَيْنَا وَلَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَنَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرْبِ النُّصُوصِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ كَرْمًا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهِ مَا فِيهِ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَالْعَرَائِشِ وَالْحَوَائِطِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ قَرِينَةٍ، وَلَا تَدْخُلُ الْفَوَاكِهُ وَالْبُقُولُ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا رُكِّبَ فِي الْأَرْضِ يَدْخُلُ وَمَا لَمْ يُرَكَّبْ فِيهَا أَوْ رُكِّبَ لَا لِلْبَقَاءِ بَلْ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ لَا يَدْخُلُ، وَكَذَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ وَالطَّرِيقُ إلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ قَرِينَةٍ.
وَإِنْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ الْقَرَائِنِ فَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ أَوْ الْمَرَافِقَ دَخَلَ فِيهَا الشُّرْبُ وَمَسِيلُ الْمَاءِ وَالطَّرِيقُ الْخَاصُّ الَّذِي يَكُونُ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ وَهُوَ حَقُّ الْمُرُورِ فِي مِلْكِهِ وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ؛ لِأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ بِخِلَافِ الشُّرْبِ وَالْمَسِيلِ وَالتَّطَرُّقِ فَإِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ الشُّرْبِ وَالسَّقْيِ وَالتَّسْيِيلِ وَالْمُرُورِ؛ فَيَتَنَاوَلُهَا الِاسْمُ، وَإِنْ ذَكَرَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ بِأَنْ قَالَ: بِعْتهَا مِنْك بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا وَمِنْهَا فَهَلْ يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ؟ يُنْظَرُ: إنْ قَالَ فِي آخِرِهِ: مِنْ حُقُوقِهَا؛ فَلَا يَدْخُلَانِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ حُقُوقِهَا خَرَجَ تَفْسِيرًا لِأَوَّلِ الْكَلَامِ فَكَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْبَيْعِ بِحُقُوقِهَا، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ فِي آخِرِهِ مِنْ حُقُوقِهَا؛ دَخَلَ فِيهِ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ وَكُلُّ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِيهِ وَمِنْهُ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ عَنْهَا كَالثِّمَارِ الْمَجْذُوذَةِ وَالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ وَالْحَطَبِ وَاللَّبَنِ وَالْقَصَبِ الْمَوْضُوعِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ، فَرْقٌ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ أَنَّ الشُّرْبَ وَالْمَسِيلَ وَالطَّرِيقَ الْخَاصَّ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ يَدْخُلُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ وَفِي الْبَيْعِ لَا يَدْخُلُ بِدُونِهِ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي الْبَابَيْنِ جَمِيعًا إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فِي الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ بِالْمُسْتَأْجَرِ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِدُونِ الْحُقُوقِ فَصَارَتْ الْحُقُوقُ مَذْكُورَةً بِذِكْرِ الْمُسْتَأْجِرِ دَلَالَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُعْقَدُ لِلْمِلْكِ، وَالِانْتِفَاعُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَكَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ: فَإِنَّ مَنْ رَهَنَ عِنْدَ رَجُلٍ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ وَأَشْجَارٌ عَلَيْهَا ثِمَارٌ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ كُلُّ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْحُقُوقِ وَالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ تَمْيِيزَ الرَّهْنِ مِنْ غَيْرِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الرَّهْنِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ فَمَتَى أَقْدَمَا عَلَى عَقْدِ الرَّهْنِ فَقَدْ قَصَدَا صِحَّتَهُ وَلَا صِحَّةَ لَهُ إلَّا بِدُخُولِ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِالْمَرْهُونِ فَدَخَلَ فِيهِ تَصْحِيحًا لِلتَّصَرُّفِ؛ إذْ لَا صِحَّةَ بِدُونِهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ تَمْيِيزَ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ، فَلَا ضَرُورَةَ فِي الدُّخُولِ بِغَيْرِ التَّسْمِيَةِ فَلَا يَدْخُلُ بِدُونِهَا هَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ أَرْضًا أَوْ كَرْمًا.
فَإِنْ كَانَ دَارًا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهَا جَمِيعُ مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ بَيْتٍ وَمَنْزِلٍ وَعُلُوٍّ وَسُفْلٍ وَجَمِيعِ مَا تَجْمَعُهُ الْحُدُودُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ قَرِينَةٍ، وَتَدْخُلُ أَغَالِيقُ الدَّارِ وَمَفَاتِيحُ أَغَالِيقِهَا، أَمَّا الْأَغَالِيقُ فَلِأَنَّهَا رُكِّبَتْ لِلْبَقَاءِ لَا لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ فَتَدْخُلُ كَالْمِيزَابِ وَأَمَّا الْمَفَاتِيحُ فَلِأَنَّ مِفْتَاحَ الْغَلَقِ مِنْ الْغَلَقِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى الْغَلَقَ دَخَلَ الْمِفْتَاحُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَيَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِدُخُولِ الْغَلَقِ وَيَدْخُلُ طَرِيقُهَا إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ وَطَرِيقُهَا إلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، كَمَا يَدْخُلُ فِي الْأَرْضِ وَالْكَرْمِ وَيَدْخُلُ الْكَنِيفُ وَالشَّارِعُ وَالْجَنَاحُ؟ كُلُّ ذَلِكَ يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ وَهَلْ تَدْخُلُ الظُّلَّةُ؟ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ؛ لَا تَدْخُلُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ مَفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ؛ لَا تَدْخُلُ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَدْخُلُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الظُّلَّةَ إذَا كَانَتْ مَفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ كَانَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الدَّارِ فَتَدْخُلُ بِبَيْعِ الدَّارِ كَالْجَنَاحِ وَالْكَنِيفِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ظُلَّةَ الدَّارِ خَارِجَةٌ عَنْ حُدُودِهَا فَإِنَّهَا اسْمٌ لِمَا يُظِلُّ عِنْدَ بَابِ الدَّارِ خَارِجًا مِنْهَا فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ بَيْعِ الدَّارِ كَالطَّرِيقِ الْخَارِجِ وَبِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَ ظُلَّتَهَا لَا يَحْنَثُ وَأَمَّا مَا كَانَ لَهَا مِنْ بُسْتَانٍ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ دَاخِلَ حَدِّ الدَّارِ يَدْخُلُ وَإِنْ كَانَ يَلِي الدَّارَ لَا يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَتْ الدَّارُ صَغِيرَةً يَدْخُلُ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلدَّارِ وَإِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يُمْكِنُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْكُمُ الثَّمَنُ فَإِنْ صَلَحَ لَهُمَا يَدْخُلُ وَإِلَّا فَلَا يَدْخُلُ وَأَمَّا مَسِيلُ الْمَاءِ وَالطَّرِيقُ الْخَاصُّ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ وَحَقُّ إلْقَاءِ الثَّلْجِ فَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ يَدْخُلُ، وَكَذَا إنْ ذَكَرَ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا وَمِنْهَا سَوَاءٌ ذَكَرَ فِي آخِرِهِ مِنْ حُقُوقِهَا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ وَتَدْخُلُ الظُّلَّةُ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ إذَا كَانَ مَفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ.
وَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ بَيْتًا فَيَدْخُلُ فِي بَيْعِهِ حَوَائِطُهُ وَسَقْفُهُ وَبَابُهُ وَالطَّرِيقُ إلَى الطَّرِيقِ الْعَامَّةِ وَالطَّرِيقُ إلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ قَرِينَةٍ وَأَمَّا الطَّرِيقُ الْخَاصُّ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ فَلَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ أَحَدِ الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ وَلَا يَدْخُلُ بَيْتُ الْعُلْوِ إنْ كَانَ عَلَى عُلْوِهِ بَيْتٌ وَإِنْ ذَكَرَ الْقَرَائِنَ؛ لِأَنَّ الْعُلُوَّ بَيْتٌ مِثْلُهُ فَكَانَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى عُلْوِهِ بَيْتٌ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلْوِهِ وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ فِي دَارِهِ فَبَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ طَرِيقُهُ فِي الدَّارِ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَيْتُ يَلِي الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ يَفْتَحُ لَهُ بَابًا إلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ لَا يَلِي الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الطَّرِيقَ إلَيْهِ أَوْ يَسْتَعِيرَ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْقِسْمَةِ إذَا أَصَابَ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّارِ بَيْتٌ أَوْ مَنْزِلٌ أَوْ نَاحِيَةٌ مِنْهَا بِغَيْرِ طَرِيقٍ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَهُ فَتْحُ الْبَابِ إلَى الطَّرِيقِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَطَرَّقَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ سَوَاءٌ ذَكَرُوا فِي الْقِسْمَةِ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ أَوْ لَا وَكَذَا إذَا كَانَ مَسِيلُ مَائِهِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ انْقَطَعَ ذَلِكَ الْحَقُّ إنْ أَمْكَنَهُ تَسْيِيلٌ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ؛ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَيِّلَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ تَسْيِيلُ الْمَاءِ وَلَا فَتْحُ الْبَابِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ وَيُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ ذَكَرُوا فِي الْقِسْمَةِ الْحُقُوقَ أَوْ الْمَرَافِقَ فَالطَّرِيقُ وَالْمَسِيلُ يَدْخُلَانِ فِي الْقِسْمَةِ وَلَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ فَلَا يَدْخُلَانِ وَتَبْطُلُ الْقِسْمَةُ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْقِسْمَةَ لِتَتْمِيمِ الْمَنْفَعَةِ وَتَكْمِيلِهَا فَإِذَا أَدَّتْ إلَى تَفْوِيتِهَا بَطَلَتْ، وَالْبَيْعُ لِلْمِلْكِ لَا لِلِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَجُوزُ بَيْعُ بَيْتِ الْعُلُوِّ دُونَ السُّفْلِ إذَا كَانَ عَلَى الْعُلُوِّ بِنَاءٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بِنَاءٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْهَوَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ثُمَّ إذَا بَاعَ الْعُلُوَّ وَعَلَيْهِ بِنَاءٌ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ فَطَرِيقُهُ فِي الدَّارِ لَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَيَجُوزُ بَيْعُ السُّفْلِ سَوَاءٌ كَانَ مَبْنِيًّا أَوْ غَيْرَ مَبْنِيٍّ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ السَّاحَةِ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بِنَاءٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مَنْزِلًا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهِ بَيْتُ السُّفْلِ وَلَا يَدْخُلُ بَيْتُ الْعُلُوِّ وَلَا الطَّرِيقُ الْخَاصُّ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ أَوْ الْمَرَافِقِ أَوْ بِذِكْرِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ أَعَمُّ مِنْ الْبَيْتِ وَأَخَصُّ مِنْ الدَّارِ فَكَانَ بَيْنَ الدَّارِ وَالْبَيْتِ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمٌ بَيْنَ حُكْمَيْنِ فَلَمْ يَدْخُلْ الْعُلُوُّ فِي بَيْعِ الْمَنْزِلِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ اعْتِبَارًا لِلْخُصُوصِ وَيَدْخُلُ فِيهِ بِقَرِينَةٍ اعْتِبَارًا لِلْعُمُومِ عَمَلًا بِالْجِهَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ إذَا لَمْ تَدْخُلْ الثَّمَرَةُ بِنَفْسِ الْبَيْعِ؛ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى قَطْعِهَا مِنْ الشَّجَرَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا عَلَى الشَّجَرَةِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ وَكَذَا الزَّرْعُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُجْبَرُ وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ الثَّمَرَةَ عَلَى الشَّجَرَةِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ وَيَتْرُكَ الزَّرْعَ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْقَطْعِ وَالْقَلْعِ لِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ، وَوَقْتُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ هُوَ وَقْتُ الْإِدْرَاكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ وَلَا يُقْلَعُ إلَّا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ عَادَةً فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ قَبْلَهُ كَمَا إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَالزَّرْعُ لَمْ يُسْتَحْصَدْ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ بَلْ يُتْرَكُ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْبَيْعَ يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ عَقِيبَهُ بِلَا فَصْلٍ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ تَمْلِيكٌ بِتَمْلِيكٍ وَتَسْلِيمٌ بِتَسْلِيمٍ فَالْقَوْلُ بِتَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ يُغَيِّرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَقَوْلُهُ: الْعَادَةُ أَنَّ الثَّمَرَةَ تُتْرَكُ عَلَى الشَّجَرَةِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، قُلْنَا: الْعَادَةُ هَذَا قَبْلَ الْبَيْعِ أَمَّا بَعْدَهُ فَمَمْنُوعٌ بَلْ تُقْطَعُ بَعْدَهُ وَلَا تُتْرَكُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ فلابد مِنْ إزَالَةِ الشَّغْلِ وَذَلِكَ بِقَطْعِ الثَّمَرَةِ هَكَذَا نَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِجَارَةِ: إنَّهُ يَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَرْضِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَإِنَّمَا تُتْرَكُ بِإِجَارَةٍ جَدِيدَةٍ بِأُجْرَةٍ أُخْرَى وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَمَا وَجَبَتْ أُجْرَةٌ أُخْرَى وَسَوَاءٌ أُبِّرَ أَوْ لَمْ يُؤَبَّرْ بِأَنْ كَانَ الْمَبِيعُ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتْ الثَّمَرَةُ مِنْ الشَّجَرَةِ وَبَانَتْ مِنْهَا؛ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا عَلَى شَجَرَةِ الْمُشْتَرِي إلَّا بِرِضَاهُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ تَرَكَهَا عَلَى الشَّجَرَةِ إلَى أَنْ أَدْرَكَتْ فَإِنْ كَانَ التَّرْكُ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي طَابَ لَهُ الْفَضْلُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُشْتَرِي يُنْظَرُ إنْ كَانَ قَدْ تَنَاهَى عِظَمُهَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَزْدَادُ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ تَنْتَقِصُ وَإِنْ كَانَ صِغَارًا لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ أَصْلٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْبَائِعُ الشَّجَرَةَ لِيَتْرُكَ الثَّمَرَ عَلَيْهَا إلَى وَقْتِ الْجُذَاذِ؛ لَمْ تَجُزْ هَذِهِ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْإِجَارَةِ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهَا لِكَوْنِهَا بَيْعَ الْمَعْدُومِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ وَالنَّاسُ مَا تَعَامَلُوا هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْإِجَارَةِ كَمَا لَمْ يَتَعَامَلُوا اسْتِئْجَارَ الْأَشْجَارِ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ وَتَجْفِيفِ اللَّحْمِ، لَكِنْ لَوْ فَعَلَ يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ إذَا انْقَضَتْ مُدَّتُهَا وَالزَّرْعُ بَقْلٌ لَمْ يُسْتَحْصَدْ بَعْدُ أَنْ يُتْرَكَ فِيهِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِالْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ بِالْأُجْرَةِ هُنَاكَ مِمَّا جَرَى بِهِ التَّعَامُلُ فَكَانَ جَائِزًا هَذَا إذَا لَمْ يُسَمِّ الثَّمَرَةَ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ.
فَأَمَّا إذَا سَمَّى دَخَلَ الثَّمَرُ مَعَ الشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ وَصَارَ لِلثَّمَرَةِ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ وَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهَا يَوْمَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَمَّاهَا فَقَدْ صَارَتْ مَبِيعًا مَقْصُودًا لِوُرُودِ فِعْلِ الْبَيْعِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ التَّمْرُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ هَلَكَ الشَّجَرُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ أَخَذَ الشَّجَرَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ وَلَوْ جَذَّهُ الْبَائِعُ وَالْمَجْذُوذُ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ يُنْظَرُ إنْ جَذَّهُ فِي حِينِهِ وَلَمْ يُنْقِصْهُ الْجُذَاذُ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَيَقْبِضُهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.
وَلَوْ قَبَضَهُمَا بَعْدَ جُذَاذِ الْبَائِعِ ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا؛ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُمَا وَهُمَا مُتَفَرِّقَانِ وَقْتَ الْقَبْضِ فَصَارَا كَأَنَّهُمَا كَانَا مُتَفَرِّقَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ مَا إذَا جَذَّهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا؛ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بَلْ يَرُدَّهُمَا جَمِيعًا أَوْ يُمْسِكَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُجْتَمِعَيْنِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَعِنْدَ الْقَبْضِ جَمِيعًا، فَإِفْرَادُ أَحَدِهِمَا بِالرَّدِّ يَكُونُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا مُجْتَمِعَةً وَهَذَا لَا يَجُوزُ هَذَا إذَا لَمْ يُنْقِصْهُ الْجُذَاذُ بِأَنْ جَذَّهُ الْبَائِعُ فِي حِينِهِ وَأَوَانِهِ فَأَمَّا إذَا أَنْقَصَهُ بِأَنْ جَذَّهُ فِي غَيْرِ حِينِهِ تَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَقَصَهُ الْجُذَاذُ فَقَدْ أَتْلَفَ بَعْضَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَتَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ وَإِذَا قَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي بَعْدَ جُذَاذِ الْبَائِعِ ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُمَا وَهُمَا مُتَفَرِّقَانِ فَصَارَا كَأَنَّهُمَا كَانَا مُتَفَرِّقَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اشْتَرَى شَجَرَةً: أَنَّهُ هَلْ يَدْخُلُ فِي شِرَائِهَا أَصْلُهَا وَعُرُوقُهَا وَأَرْضُهَا؟ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
(إمَّا) إنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ أَرْضِهَا لِلْقَلْعِ (وَإِمَّا) إنْ اشْتَرَاهَا بِقَرَارِهَا مِنْ الْأَرْضِ لِلتَّرْكِ لَا لِلْقَلْعِ (وَإِمَّا) إنْ اشْتَرَاهَا وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ أَرْضِهَا لِلْقَلْعِ دَخَلَ فِيهَا أَصْلُهَا وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَلْعِ وَلَهُ أَنْ يَقْلَعَهَا بِأَصْلِهَا لَكِنْ قَلْعًا مُعْتَادًا مُتَعَارَفًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ الْأَرْضَ إلَى مَا يَتَنَاهَى إلَيْهِ الْعُرُوقُ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ بِالشَّرْطِ إلَّا إذَا شَرَطَ الْبَائِعُ الْقَطْعَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ أَصْلُهَا، أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَكِنْ فِي الْقَطْعِ مِنْ أَصْلِهَا ضَرَرٌ بِالْبَائِعِ بِأَنْ كَانَ بِقُرْبِ حَائِطِهِ أَوْ عَلَى حَافَّةِ نَهْرِهِ فَيَخَافُ الْخَلَلَ عَلَى الْحَائِطِ أَوْ الشَّقَّ فِي النَّهْرِ فَقَطْعُهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ دُونَ أَصْلِهَا؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَإِنْ قَلَعَ أَوْ قَطَعَ ثُمَّ نَبَتَ مِنْ أَصْلِهَا أَوْ عُرُوقِهَا شَجَرَةٌ أُخْرَى فَهِيَ لِلْبَائِعِ لَا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ الْقَدْرَ الْمَقْطُوعَ فَيَكُونُ الْبَاقِي لِلْبَائِعِ إلَّا إذَا قَطَعَ مِنْ أَعْلَى الشَّجَرَةِ فَالنَّابِتُ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِقَرَارِهَا مِنْ الْأَرْضِ لِلتَّرْكِ لَا لِلْقَلْعِ؛ فَيَدْخُلُ فِيهَا أَرْضُهَا وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الشَّجَرَةَ مَعَ مَوْضِعِهَا فَلَمْ يَكُنْ مِلْكُ الْبَائِعِ مَشْغُولًا بِهِ فَلَا يَمْلِكُ إجْبَارَهُ عَلَى الْقَلْعِ وَلَهُ أَنْ يَغْرِسَ مَكَانَهَا أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ يَغْرِسُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ.
(وَأَمَّا) إذَا اشْتَرَاهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَلْعِ وَلَا التَّرْكِ.
لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَالَ: عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا تَدْخُلُ الْأَرْضُ فِي الْبَيْعِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَدْخُلُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُسَمَّى فِي الْبَيْعِ هُوَ الشَّجَرَةُ وَهِيَ اسْمٌ لِلْقَائِمِ عَلَى أَرْضِهَا بِعُرُوقِهَا فَأَمَّا بَعْدَ الْقَلْعِ فَهِيَ خَشَبٌ لَا شَجَرٌ فلابد وَأَنْ تَدْخُلَ الْأَرْضُ فِيهِ؛ وَلِهَذَا دَخَلَتْ فِي الْإِقْرَارِ بِالْإِجْمَاعِ بِأَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِشَجَرٍ فِي أَرْضِهِ حَتَّى كَانَتْ الشَّجَرَةُ مَعَ أَرْضِهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ كَذَا هَذَا وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالشَّجَرَةَ تَابِعَةٌ لَهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ تَبَعًا لِلْأَرْضِ؟ فَلَوْ دَخَلَتْ فِي بَيْعِ الشَّجَرَةِ لَاسْتَتْبَعَ التَّبَعُ الْأَصْلَ وَهَذَا قَلْبُ الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا دَخَلَتْ فِي الْإِقْرَارِ بِالشَّجَرَةِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ فلابد مِنْ كَوْنٍ سَابِقٍ عَلَى الْإِقْرَارِ وَهُوَ قِيَامُهَا فِي الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ قَرَارُهَا وَذَلِكَ دَلِيلُ كَوْنِ الْأَرْضِ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِسَبَبٍ سَابِقٍ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِكَوْنِ الشَّجَرَةِ لَهُ إقْرَارًا بِكَوْنِ الْأَرْضِ لَهُ أَيْضًا، وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ لَمْ تُوجَدْ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَدْخُلُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ اشْتَرَى صَدَفَةً فَوَجَدَ فِيهَا لُؤْلُؤَةً فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا تَتَوَلَّدُ مِنْ الصَّدَفَةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْضَةِ تَتَوَلَّدُ مِنْ الدَّجَاجَةِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أَجْزَائِهَا فَتَدْخُلُ فِي بَيْعِهَا كَمَا تَدْخُلُ الْبَيْضَةُ فِي بَيْعِ الدَّجَاجَةِ وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى سَمَكَةً فَوَجَدَ فِيهَا لُؤْلُؤَةً؛ لِأَنَّ السَّمَكَ يَأْكُلُ الصَّدَفَةَ فَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى سَمَكَةً فَوَجَدَ فِيهَا سَمَكَةً أُخْرَى؛ أَنَّ الثَّانِيَةَ تَكُونُ لَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى دَجَاجَةً فَوَجَدَ فِيهَا لُؤْلُؤَةً فَهِيَ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ اللُّؤْلُؤَ لَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الدَّجَاجِ وَلَا هُوَ مِنْ عَلَفِهَا فَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُوجَدُ فِي حَوْصَلَةِ الطَّيْرِ إنْ كَانَ مِمَّا يَأْكُلُهُ الطَّيْرُ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَفِ لَهُ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَأْكُلُهُ الطَّيْرُ فَهُوَ لِلْبَائِعِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا بَاعَ رَقِيقًا وَلَهُ مَالٌ أَنَّ مَالَهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَالْمَوْلَى مَا بَاعَ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتِ الْبَيْعِ هُوَ الْعَبْدُ فَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَدْخُلَ ثِيَابُ بَدَنِهِ كَمَا لَا يَدْخُلُ اللِّجَامُ وَالسَّرْجُ وَالْعِذَارُ فِي بَيْعِ الدَّابَّةِ؛ لِمَا قُلْنَا لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فِي ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ وَهِيَ الَّتِي يَلْبَسُهَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ وَتَعَارُفِهِمْ وَأَمَّا الثِّيَابُ النَّفِيسَةُ الَّتِي لَا يَلْبَسُهَا إلَّا وَقْتَ الْعَرْضِ لِلْبَيْعِ فَلَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِانْعِدَامِ التَّعَارُفِ فِي ذَلِكَ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَهَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ فِي كُلِّ بَلَدٍ فَبُنِيَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَمَالُهُ لِمَوْلَاهُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ مُدَبَّرَهُ أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَرْقُوقٌ مَمْلُوكٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ مَالٌ وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ وَقْتَ الْكِتَابَةِ يَكُونُ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ الْقِنِّ وَمَا اكْتَسَبَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ يَكُونُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ الْمُكَاتَبِ وَلِأَنَّهُ حُرٌّ يَدًا فَكَانَ كَسْبُهُ لَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ الْبَائِعَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْزَمُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ وَلَا يَلْزَمُ بِالْتِزَامِ الْعَاقِدِ إلَّا ضَرَرُ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَا وَرَاءَهُ فَلَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا بَاعَ جِذْعًا لَهُ فِي سَقْفٍ أَوْ آجُرًّا لَهُ فِي حَائِطٍ أَوْ ذِرَاعًا فِي دِيبَاجٍ أَوْ كِرْبَاسٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِالنَّزْعِ وَالْقَطْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْبَائِعِ وَالضَّرَرُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَكَانَ هَذَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بَيْعَ مَا لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ شَرْعًا فَيَكُونُ فَاسِدًا فَإِنْ نَزَعَهُ الْبَائِعُ أَوْ قَطَعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ؛ جَازَ الْبَيْعُ حَتَّى يُجْبَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ ضَرَرُ الْبَائِعِ بِالتَّسْلِيمِ فَإِذَا سَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَجَازَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ بَيْعِ الْأَلْيَةِ فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ وَالدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ وَالْبَزْرِ فِي الْبِطِّيخِ.
وَنَحْوِهَا أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا حَتَّى لَوْ سَلِمَ؛ لَمْ يَجُزْ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَالْأَصْلُ الْمَحْفُوظُ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ يَرْجِعُ إلَى قَطْعِ اتِّصَالٍ ثَابِتٍ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ وَمَا لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ يَرْجِعُ إلَى قَطْعِ اتِّصَالٍ عَارِضٍ فَبَيْعٌ فَاسِدٌ إلَّا أَنْ يُقْطَعَ بِاخْتِيَارِهِ وَيُسْلَمَ فَيَجُوزُ وَالْقِيَاسُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْزَمُهُ بِالْجَزِّ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا عَدَمَ الْجَوَازِ لِلنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ الْجَزَّ مِنْ أَصْلِهِ لَا يَخْلُو عَنْ الْإِضْرَارِ بِالْحَيَوَانِ وَمَوْضِعُ الْجَزِّ فِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَتَجْرِي فِيهِ الْمُنَازَعَةُ فَلَا يَجُوزُ وَلَوْ بَاعَ حِلْيَةَ سَيْفٍ فَإِنْ كَانَ يَتَخَلَّصُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَّا إذَا فَصَلَ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا: بِنَاءٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَالْأَرْضُ لِغَيْرِهِمَا فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ الْبِنَاءِ لِغَيْرِ شَرِيكِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ نَقْضُ الْبِنَاءِ، وَكَذَا زَرْعٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَوْ ثِمَارٌ بَيْنَهُمَا فِي أَرْضٍ لَهُمَا حَقُّ التَّرْكِ فِيهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ لِلْحَالِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ، وَلَوْ بَاعَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ جَازَ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّرْعُ كُلُّهُ لِرَجُلٍ وَلَمْ يُدْرَكْ فَبَاعَ الزَّرْعَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِقَطْعِ الْكُلِّ وَفِيهِ ضَرَرٌ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ جَازَ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ، دَارٌ أَوْ أَرْضٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَشَاعٌ غَيْرُ مَقْسُومٍ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا بَيْتًا مِنْهَا بِعَيْنِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَاعَ قِطْعَةً مِنْ الْأَرْضِ بِعَيْنِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَجُزْ لَا فِي نَصِيبِهِ وَلَا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ.
أَمَّا فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَلِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِصَاحِبِهِ بِإِحْدَاثِ زِيَادَةِ شَرِكَةٍ وَلَوْ بَاعَ جَمِيعَ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّارِ وَالْأَرْضِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ زِيَادَةَ شَرِكَةٍ، وَإِنَّمَا قَامَ الْمُشْتَرِي مَقَامَ الْبَائِعِ، وَلَوْ بَاعَ اللُّؤْلُؤَةَ فِي الصَّدَفَةِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا إلَّا بِشَقِّ الصَّدَفَةِ وَإِنَّهُ ضَرَرٌ فِيمَا وَرَاءَ الْمَعْقُودِ فَصَارَ كَبَيْعِ الْجِذْعِ فِي السَّقْفِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِشَقِّ الصَّدَفَةِ؛ لِأَنَّ الصَّدَفَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالشَّقِّ وَلَوْ بَاعَ قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ هَذِهِ النَّقْرَةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِالْفَصْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْقَوَائِمَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ أَوْ بَاعَ الثِّمَارَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ مُطْلَقًا جَازَ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَوْ بَاعَ بِنَاءَ الدَّارِ دُونَ الْعَرْصَةِ أَوْ الْأَشْجَارَ الْقَائِمَةَ عَلَى الْأَرْضِ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ الزَّرْعَ أَوْ الْبُقُولَ الْقَائِمَةَ قَبْلَ الْجَذِّ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) الْخُلُوُّ عَنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ:
مِنْهَا: شَرْطٌ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ نَحْوَ مَا إذَا اشْتَرَى نَاقَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَلَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ عِظَمَ الْبَطْنِ وَالتَّحَرُّكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِعَارِضِ دَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ فَكَانَ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَغَرَرٍ» وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَاسِدٌ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذَا الشَّرْطِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا حَامِلًا بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ كَوْنِ الْعَبْدِ كَاتِبًا أَوْ خَيَّاطًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَذَا جَائِزٌ فَكَذَا هَذَا وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ إلَّا رِوَايَةً فِيهِ عَنْ أَصْحَابِنَا وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ قِيَاسًا عَلَى الْبَهَائِمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْبُيُوعِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ بَاعَ وَتَبَرَّأَ مِنْ حَمْلِهَا؛ جَازَ الْبَيْعُ وَلَيْسَ هَذَا كَالشَّرْطِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَيْسَ هَذَا كَالشَّرْطِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ فِيهِ مُفْسِدٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ فِي الْجَوَارِي عَيْبٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَهَا حَامِلًا لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا فَكَانَ ذِكْرُ الْحَبَلِ فِي الْجَوَارِي إبْرَاءً عَنْ هَذَا الْعَيْبِ بِخِلَافِ الْبَهَائِمِ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ فِيهَا زِيَادَةٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بَهِيمَةً فَوَجَدَهَا حَامِلًا لَيْسَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ فَكَانَ ذِكْرُ الْحَبَلِ فِيهَا شَرْطًا، فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ؛ فَيُفْسِدُ الْبَيْعَ وَبَعْضُهُمْ فَصَّلَ فِيهِ تَفْصِيلًا فَقَالَ: إنْ اشْتَرَاهَا لِيَتَّخِذَهَا ظِئْرًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ زِيَادَةٍ فِي وُجُودِهَا خَطَرٌ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ أَيْضًا فَأَشْبَهَ اشْتِرَاطَ الْحَبَلِ فِي بَيْعِ النَّاقَةِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِالشِّرَاءِ ذَلِكَ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ يَكُونُ إبْرَاءً عَنْ هَذَا الْعَيْبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ اشْتَرَى نَاقَةً وَهِيَ حَامِلٌ عَلَى أَنَّهَا تَضَعُ حَمْلهَا إلَى شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ فِي وُجُودِ هَذَا الشَّرْطِ غَرَرًا، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى بَقَرَةً عَلَى أَنَّهَا تَحْلُبُ كَذَا كَذَا رَطْلًا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى بَقَرَةً عَلَى أَنَّهَا حَلُوبَةٌ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ قِيَاسُ رِوَايَتِهِ فِي شَرْطِ الْحَبَلِ.
(وَوَجْهُهُ) أَنَّ شَرْطَ كَوْنِهَا حَلُوبَةً شَرْطُ زِيَادَةِ صِفَةٍ فَأَشْبَهَ شَرْطَ الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ فِي الْجَوَارِي، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
(وَوَجْهُهُ) أَنَّ هَذَا شَرْطُ زِيَادَةٍ فَيَجْرِي فِي وُجُودِهَا غَرَرٌ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَهُوَ اللَّبَنُ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ، وَكَوْنُهَا حَلُوبَةً إنْ كَانَ صِفَةً لَهَا لَكِنَّهَا لَا تُوصَفُ بِهِ إلَّا بِوُجُودِ اللَّبَنِ وَفِي وُجُودِهِ غَرَرٌ وَجَهَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ، وَلَوْ اشْتَرَى بَقَرَةً عَلَى أَنَّهَا لَبُونٌ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْحَلُوبَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ اشْتَرَى قُمْرِيَّةً عَلَى أَنَّهَا تُصَوِّتُ أَوْ طَيْرًا عَلَى أَنَّهُ يَجِيءُ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ أَوْ كَبْشًا عَلَى أَنَّهُ نَطَّاحٌ أَوْ دِيكًا عَلَى أَنَّهُ مُقَاتِلٌ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ غَرَرٌ وَالْوُقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَبْرَ عَلَيْهِ فَصَارَ كَشَرْطِ الْحَبَلِ وَلِأَنَّ هَذِهِ صِفَاتٌ يُتَلَهَّى بِهَا عَادَةً وَالتَّلَهِّي مَحْظُورٌ فَكَانَ هَذَا شَرْطًا مَحْظُورًا فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا بَاعَ قُمْرِيَّةً عَلَى أَنَّهَا تُصَوِّتُ فَإِذَا صَوَّتَتْ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا صَوَّتَتْ عُلِمَ أَنَّهَا مُصَوِّتَةٌ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ غَرَرُ الْعَدَمِ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالُوا فِي الْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَ قُمْرِيَّةً مُصَوِّتَةً: إنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا مُصَوِّتَةً.
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا مُغَنِّيَةٌ عَلَى سَبِيلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ التَّغْنِيَةَ صِفَةٌ مَحْظُورَةٌ لِكَوْنِهَا لَهْوًا فَشَرْطُهَا فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ فَسَادَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا مُغَنِّيَةٌ عَلَى وَجْهِ إظْهَارِ الْعَيْبِ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ هَذَا الْعَيْبِ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهَا بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ عَيْبٍ آخَرَ فَإِنْ وَجَدَهَا لَا تُغَنِّي لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْغِنَاءَ فِي الْجَوَارِي عَيْبٌ فَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ فَوَجَدَهُ سَلِيمًا.
وَلَوْ اشْتَرَى كَلْبًا أَوْ فَهْدًا عَلَى أَنَّهُ مُعَلَّمٌ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ الْبَيْعُ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمَصِيدَ فَيُمْسِكُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ مَحْظُورٍ؛ لِأَنَّ تَعْلِيمَ الْكَلْبِ وَالِاصْطِيَادَ بِهِ مُبَاحٌ فَأَشْبَهَ شَرْطَ الْكِتَابَةِ فِي الْعَبْدِ وَالطَّبْخِ فِي الْجَارِيَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ غَرَرٌ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ إلَّا بِالِاصْطِيَادِ وَالْجَبْرُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَلَوْ اشْتَرَى بِرْذَوْنًا عَلَى أَنَّهُ هِمْلَاجٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ بِالتَّسْيِيرِ فَلَمْ يَكُنْ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ وَلَا خَطَرٌ أَيْضًا، وَإِنْ شِئْت أَفْرَدْت لِجِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ شَرْطًا عَلَى حِدَةٍ وَخَرَّجْتهَا إلَيْهِ فَقُلْت: وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَشْرُوطُ مَحْظُورًا فَافْهَمْ.
(وَمِنْهَا) شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لِلْمَبِيعِ إنْ كَانَ مِنْ بَنِي آدَمَ كَالرَّقِيقِ وَلَيْسَ بِمُلَائِمٍ لِلْعَقْدِ وَلَا مِمَّا جَرَى بِهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ نَحْوَ مَا إذَا بَاعَ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إلَيْهِ أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَةً أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا شَهْرًا أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ أُسْبُوعًا أَوْ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي قَرْضًا أَوْ عَلَى أَنْ يَهَبَ لَهُ هِبَةً أَوْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ مِنْهُ أَوْ يَبِيعَ مِنْهُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ قَمِيصًا أَوْ حِنْطَةً عَلَى أَنْ يَطْحَنَهَا أَوْ ثَمَرَةً عَلَى أَنْ يَجُذَّهَا أَوْ رَبْطَةً قَائِمَةً عَلَى الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَجُذَّهَا أَوْ شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ عَلَى أَنْ يَحْمِلَهُ الْبَائِعُ إلَى مَنْزِلِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَالْبَيْعُ فِي هَذَا كُلِّهِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي الْبَيْعِ تَكُونُ رِبًا لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الرِّبَا.
وَالْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ الرِّبَا فَاسِدٌ أَوْ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا، وَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْبَيْعِ كَحَقِيقَةِ الرِّبَا عَلَى مَا نُقَرِّرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا لَوْ بَاعَ جَارِيَةً عَلَى أَنْ يُدَبِّرَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ عَلَى أَنْ يَسْتَوْلِدَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمَبِيعِ وَإِنَّهُ مُفْسِدٌ، وَكَذَا لَوْ بَاعَهَا بِشَرْطِ أَنْ يُعْتِقَهَا الْمُشْتَرِي فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ جَائِزٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
(وَوَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ شَرْطَ الِاعْتِقَادِ مِمَّا يُلَائِمُ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْهَاءُ الْمِلْكِ وَإِنْهَاءُ الْمِلْكِ تَقْرِيرٌ لَهُ فَكَانَ مُلَائِمًا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ أَنَّ الْبَيْعَ ثَبَّتَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْإِعْتَاقِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَ حَتَّى يَقَعَ الْعِتْقُ عَنْ الْآمِرِ وَلَا عِتْقَ إلَّا بِالْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ إلَّا بِالتَّمْلِيكِ فَلَوْ كَانَ الْإِعْتَاقُ إزَالَةَ الْمِلْكِ لَمَا تُصُوِّرَ وُجُودُ الْإِعْتَاقِ مُقْتَضَاهُ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَالشَّيْءُ لَا يَقْتَضِي ضِدَّهُ، وَإِذَا كَانَ إنْهَاءَ الْمِلْكِ؛ كَانَ تَقْرِيرًا لَهُ فَكَانَ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَهُ وَلِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعُمُّ الْكُلَّ وَالثَّانِي يَخُصُّ أَبَا حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ شَرْطٌ لَا يُلَائِمُهُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي الْمِلْكَ، وَالْمِلْكَ يَقْتَضِي إطْلَاقَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَمْلُوكِ تَحْصِيلًا وَتَرْكًا.
وَشَرْطُ الْإِعْتَاقِ يَقْتَضِي الِاسْتِحْقَاقَ وَاللُّزُومَ لَا مَحَالَةَ فَلَا يُلَائِمُهُ بَلْ يُضَادُّهُ وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُلَائِمُ الْعَقْدَ مِنْ وَجْهٍ وَلَا يُلَائِمُهُ مِنْ وَجْهٍ وَهَذَا يُوجِبُ الْفَسَادَ عَلَى مَا نَذْكُرُ تَقْرِيرَهُ ثُمَّ إذَا بَاعَ بِهَذَا الشَّرْطِ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي؛ انْقَلَبَ الْعَقْدُ جَائِزًا بِالْإِعْتَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا حَتَّى يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ سَوَاءٌ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ أَوْ قَبْلَهُ هَكَذَا رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا حَتَّى تَلْزَمَهُ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَهَكَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَوَجْهُهُ) ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ فَاسِدًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ وَبِالْإِعْتَاقِ لَا يَنْعَدِمُ الْفَسَادُ بَلْ يَتَقَرَّرُ؛ لِأَنَّهُ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَإِنَّهُ تَقْرِيرٌ فَيُوجِبُ تَقَرُّرَ الْفَسَادِ لِلْفَاسِدِ، وَالْفَاسِدُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقِيمَةِ لَا بِالثَّمَنِ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ أَوْ وَهَبَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَذَا هاهنا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْطَ الْإِعْتَاقِ يُلَائِمُ الْعَقْدَ مِنْ وَجْهٍ وَلَا يُلَائِمُهُ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ إنْهَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِزَالَةٌ مِنْ وَجْهٍ: فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْهَاءٌ كَانَ يُلَائِمُهُ؛ لِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إزَالَةٌ لَا يُلَائِمُهُ؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُوجَبِ الْعَقْدِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ فَعَمِلْنَا بِشَبَهِ الْإِزَالَةِ، فَقُلْنَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي الِابْتِدَاءِ وَعَمِلْنَا بِشَبَهِ الْإِنْهَاءِ فَقُلْنَا بِجَوَازِهِ فِي الِانْتِهَاءِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يُعْمَلُ بِهِمَا عَلَى الْقَلْبِ مِمَّا قُلْتُمْ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ جَائِزًا انْقَلَبَ فَاسِدًا فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَوَجَدْنَا فَاسِدًا انْقَلَبَ جَائِزًا كَمَا فِي بَيْعِ الرَّقْمِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَوْ وَهَبَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إنْهَاءَ الْمِلْكِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ التَّدْبِيرِ أَوْ الِاسْتِيلَادِ فَدَبَّرَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ اسْتَوْلَدَهَا أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَالِاسْتِيلَادَ لَا يُوجِبَانِ إنْهَاءَ الْمِلْكِ بِيَقِينٍ لِاحْتِمَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَبِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ فِي الْجُمْلَةِ فَكَانَ ذَلِكَ شَرْطًا لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ أَصْلًا؛ فَأَوْجَبَ لُزُومَ الْفَسَادِ وَكَذَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَأَنْ لَا يَهَبَهُ وَأَنْ لَا يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَبْدُ وَالْجَارِيَةُ بِالصِّيَانَةِ عَنْ تَدَاوُلِ الْأَيْدِي فَيَكُونُ مُفْسِدًا لِلْبَيْعِ.
(وَأَمَّا) فِيمَا سِوَى الرَّقِيقِ إذَا بَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَا يَهَبَهُ أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهَا أَوْ يَهَبَهَا أَوْ طَعَامًا عَلَى أَنْ يَأْكُلَهُ وَلَا يَبِيعَهُ: ذَكَرَ فِي الْمُزَارَعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الْمُزَارِعِينَ فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ وَلَا يَهَبَهُ فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدٌ.
(وَوَجْهُهُ) أَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا يُلَائِمُهُ وَلَا جَرَى بِهِ التَّعَارُفُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَكُونُ مُفْسِدًا كَمَا فِي سَائِرِ الشَّرَائِطِ الْمُفْسِدَةِ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَ فِي الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ فَلَا يُوجِبُ الْفَسَادَ وَهَذَا لِأَنَّ فَسَادَ الْبَيْعِ فِي مِثْل هَذِهِ الشُّرُوطِ لِتَضَمُّنِهَا الرِّبَا وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي الْعَقْدِ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي هَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ إلَّا أَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَلَوْ بَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَحْرِقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ دَارًا عَلَى أَنْ يُخَرِّبَهَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمَضَرَّةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا الْمُشْتَرِي: ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اخْتِلَافًا وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فَقَالَ: الْبَيْعُ فَاسِدٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَطَأَهَا جَازَ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْبَيْعِ كَمَا لَوْ بَاعَ مَا سِوَى الرَّقِيقِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ أَوْ لَا يَهَبَ إلَّا أَنَّهُ نَوَى مَضَرَّةً لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ بَاطِلًا وَالْبَيْعُ صَحِيحًا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ هَذَا شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ أَمْرٌ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَهَذَا الشَّرْطُ يَنْفِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ يُقَرِّرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْوَطْءِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ شَرْطَ الْوَطْءِ مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَيْضًا بَلْ يَنْفِيه؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي الْحِلَّ لَا الِاسْتِحْقَاقَ وَقَضِيَّةُ الشَّرْطِ الِاسْتِحْقَاقُ وَاللُّزُومُ وَهُمَا مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ بَلْ يَنْفِيهِ.
(وَأَمَّا) الشَّرْطُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَهُ كَمَا إذَا اشْتَرَى بِشَرْطِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْمَبِيعَ أَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الثَّمَنَ أَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَبْخَسَ الْمَبِيعَ أَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ أَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنْ تَخْدِمَهُ أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ أَوْ حِنْطَةً فِي سُنْبُلِهَا وَشَرَطَ الْحَصَادَ عَلَى الْبَائِعِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَكَانَ ذِكْرُهَا فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ تَقْرِيرًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَلَا تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ.
وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِشَرْطِ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ فَهَذَا لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ بِمَنْزِلِهِمَا فِي الْمِصْرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فِي الْمِصْرِ وَالْآخَرُ خَارِجَ الْمِصْرِ فَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا فِي الْمِصْرِ فَالْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا إلَّا إذَا كَانَ فِي تَصْحِيحِ هَذَا الشَّرْطِ تَحْقِيقُ الرِّبَا، كَمَا إذَا تَبَايَعَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ وَشَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ الْإِيفَاءَ فِي مَنْزِلِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدٌ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُشْتَرِي فَأَشْبَهَ مَا إذَا اشْتَرَى بِشَرْطِ الْحَمْلِ إلَى مَنْزِلِهِ أَوْ بِشَرْطِ الْإِيفَاءِ فِي مَنْزِلِهِ وَأَحَدُهُمَا فِي الْمِصْرِ وَالْآخَرُ خَارِجَ الْمِصْرِ.
(وَلَهُمَا) أَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا الْبَيْعَ بِهَذَا الشَّرْطِ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي فِي الْمِصْرِ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِتَعَامُلِ النَّاسِ وَلَا تَعَامُلَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُونَا فِي الْمِصْرِ وَلَا فِي شَرْطِ الْحَمْلِ إلَى الْمَنْزِلِ فَعَمِلْنَا بِالْقِيَاسِ فِيهِ وَكَذَلِكَ الشَّرْطُ الَّذِي لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ لَكِنَّهُ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُقَرِّرٌ لِحُكْمِ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُؤَكِّدًا إيَّاهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيُلْحَقُ بِالشَّرْطِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ نَحْوَ مَا إذَا بَاعَ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا وَالرَّهْنُ مَعْلُومٌ وَالْكَفِيلُ حَاضِرٌ فَقَبِلَ.
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ إعْطَاءِ الرَّهْنِ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُفْسِدٌ فِي الْأَصْلِ وَشَرْطُ الرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ مِمَّا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ فَكَانَ مُفْسِدًا إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَوْ كَانَ مُخَالِفًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ صُورَةً فَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ بِالثَّمَنِ شُرِعَ تَوْثِيقًا لِلثَّمَنِ وَكَذَا الْكَفَالَةُ فَإِنَّ حَقَّ الْبَائِعِ يَتَأَكَّدُ بِالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَرِّرًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ مَعْنًى فَأَشْبَهَ اشْتِرَاطَ صِفَةِ الْجَوْدَةِ لِلثَّمَنِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ فَكَذَا هَذَا وَلَوْ قَبِلَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ لَا يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ الرَّهْنَ إذَا شُرِطَ فِي الْبَيْعِ فَقَدْ صَارَ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ وَالْجَبْرُ عَلَى التَّسْلِيمِ مِنْ حُقُوقِ الْبَيْعِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فِي الْأَصْلِ وَاشْتِرَاطُهُ فِي الْبَيْعِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ تَبَرُّعًا وَالْجَبْرُ عَلَى التَّبَرُّعِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ: إمَّا أَنْ تَدْفَعَ الرَّهْنَ أَوْ قِيمَتَهُ أَوْ تُؤَدِّيَ الثَّمَنَ أَوْ يَفْسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا بِوَثِيقَةِ الرَّهْنِ أَوْ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ تَقُومُ مَقَامَهُ وَلِأَنَّ الدَّيْنَ يُسْتَوْفَى مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ وَهِيَ قِيمَتُهُ وَإِذَا أَدَّى الثَّمَنَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَلَا مَعْنَى لِلْفَسْخِ وَلَوْ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ؛ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَالْغَرَضِ وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَجْهُولًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ جَوَازَ هَذَا الشَّرْطِ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ لِكَوْنِهِ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ مُقَرِّرًا لِمُقْتَضَاهُ مَعْنًى لِحُصُولِ التَّوَثُّقِ وَالتَّأَكُّدِ لِلثَّمَنِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَجْهُولِ.
وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى تَعْيِينِ رَهْنٍ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ جَهَالَةُ الرَّهْنِ وَقَدْ زَالَ فَكَأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا مُعَيَّنًا مِنْ الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لَهُ حُكْمُ حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ افْتَرَقَا عَنْ الْمَجْلِسِ؛ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى تَعْيِينِ الرَّهْنِ وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ نَقَدَ الثَّمَنَ؛ جَازَ الْبَيْعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الرَّهْنِ هُوَ الْوُصُولُ إلَى الثَّمَنِ وَقَدْ حَصَلَ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْوَثِيقَةِ.
وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ إعْطَاءِ الْكَفِيلِ أَنَّ الْكَفِيلَ إنْ كَانَ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ وَقَبِلَ؛ جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ وَكَذَا إذَا كَانَ حَاضِرًا وَلَمْ يَقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ ثَبَتَ لِمَعْنَى التَّوْثِيقِ وَتَوْكِيدِ الثَّمَنِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْرِيرِ مُوجَبِ الْعَقْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَإِذَا كَانَ الْكَفِيلُ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا وَلَمْ يَقْبَلْ؛ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ فَلَمْ يَحْصُلْ مَعْنَى التَّوْثِيقِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْكَفِيلُ مَجْهُولًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ كَفَالَةَ الْمَجْهُولِ لَا تَصِحُّ وَلَوْ كَانَ الْكَفِيلُ مُعَيَّنًا وَهُوَ غَائِبٌ ثُمَّ حَضَرَ وَقَبِلَ الْكَفَالَةَ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ جَازَتْ الْكَفَالَةُ بِالْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِذَا حَضَرَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ تَأَكَّدَ الْفَسَادُ.
وَلَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُحِيلَهُ بِالثَّمَنِ عَلَى غَرِيمٍ مِنْ غُرَمَائِهِ أَوْ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ الثَّمَنَ لِغَرِيمٍ مِنْ غُرَمَاءِ الْبَائِعِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ الَّذِي لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ مُفْسِدٌ فِي الْأَصْلِ إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ تَقْرِيرُ مُوجَبِ الْعَقْدِ وَتَأْكِيدُهُ، وَالْحَوَالَةُ إبْرَازٌ عَنْ الثَّمَنِ وَإِسْقَاطٌ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ أَيْضًا لَكِنْ لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ كَمَا إذَا اشْتَرَى نَعْلًا عَلَى أَنْ يَحْدُوَهُ الْبَائِعُ أَوْ جِرَابًا عَلَى أَنْ يَخْرِزَهُ لَهُ خُفًّا أَوْ يَنْعَلَ خُفَّهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وَإِنَّهُ مُفْسِدٌ كَمَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِشَرْطِ أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ لَهُ قَمِيصًا وَنَحْوَ ذَلِكَ.
(وَلَنَا) أَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا هَذَا الشَّرْطَ فِي الْبَيْعِ كَمَا تَعَامَلُوا الِاسْتِصْنَاعَ فَسَقَطَ الْقِيَاسُ بِتَعَامُلِ النَّاسِ كَمَا سَقَطَ فِي الِاسْتِصْنَاعِ، وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ أَوْ طَبَّاخَةٌ أَوْ خَبَّازَةٌ، أَوْ غُلَامًا عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ خَيَّاطٌ، أَوْ بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا صِحَاحٌ أَوْ عَلَى أَنَّهَا جِيَادُ نَقْدِ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ صِفَةٌ لِلْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ صِفَةٌ مَحْضَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ انْقِلَابُهَا أَصْلًا وَلَا يَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ بِحَالٍ، وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَإِنَّهَا صِفَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا لَا عَلَى وَجْهِ التَّلَهِّي، وَالْمَشْرُوطُ إذَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ؛ كَانَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، وَاشْتِرَاطُ شَرْطٍ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ كَمَا إذَا اشْتَرَى بِشَرْطِ التَّسْلِيمِ وَتَمَلُّكِ الْمَبِيعِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى نَاقَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ عَيْنٌ وَهُوَ الْحَمْلُ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا.
وَكَوْنُ النَّاقَةِ حَامِلًا وَإِنْ كَانَ صِفَةً لَهَا لَكِنْ لَا تَحَقُّقَ لَهُ إلَّا بِالْحَمْلِ وَهُوَ عَيْنٌ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ، وَمَعَ ذَلِكَ مَجْهُولٌ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ فَسَادَ الْبَيْعِ وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا أَيْضًا مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَسَائِلَ إذَا اشْتَرَى نَاقَةً عَلَى أَنَّهَا تَحْلُبُ كَذَا وَكَذَا رَطْلًا أَوْ عَلَى أَنَّهَا حَلُوبَةٌ أَوْ عَلَى أَنَّهَا لَبُونٌ أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَيْنٌ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا مُغَنِّيَةٌ عَلَى سَبِيلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْغِنَاءِ جِهَةُ التَّلَهِّي فَاشْتِرَاطُهَا فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ الْفَسَادَ وَكَذَا إذَا اشْتَرَى قُمْرِيَّةً عَلَى أَنَّهَا تُصَوِّتُ أَوْ طوطيا عَلَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ أَوْ حَمَامَةً عَلَى أَنَّهَا تَجِيءُ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ أَوْ كَبْشًا عَلَى أَنَّهُ نَطَّاحٌ أَوْ دِيكًا عَلَى أَنَّهُ مُقَاتِلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِهَاتِ كُلَّهَا جِهَاتُ التَّلَهِّي، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى كَلْبًا عَلَى أَنَّهُ مُعَلَّمٌ أَوْ اشْتَرَى دَابَّةً عَلَى أَنَّهَا هِمْلَاجٌ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لَا حَظْرَ فِيهَا بِوَجْهٍ وَاَللَّه عَزَّ شَأْنُهُ الْمُوَفِّقُ.
وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْعَيْبِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ عَمَّ الْعُيُوبَ كُلَّهَا بِأَنْ قَالَ: بِعْت عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ أَوْ خَصَّ بِأَنْ سَمَّى جِنْسًا مِنْ الْعُيُوبِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إنْ خَصَّ صَحَّ وَإِنْ عَمَّ لَا يَصِحُّ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ عِنْدَهُ هَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ؟ لَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ يَبْطُلُ الْعَقْدُ أَيْضًا، وَفِي قَوْلٍ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ، وَلَوْ شَرَطَ: عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْعَيْبِ الَّذِي يَحْدُثُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ إبْرَاءٌ عَنْ الْمَجْهُولِ فَلَا يَصِحُّ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إبْرَاءٌ عَنْ الْمَجْهُولِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ إبْرَاءٌ عَنْ الْمَجْهُولِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَهَذَا آيَةُ التَّمْلِيكِ؛ إذْ الْإِسْقَاطُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَتَمْلِيكُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْإِبْرَاءَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ لَكِنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّمْلِيكِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تُمْنَعُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؟ كَمَا إذَا بَاعَ قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ هَذِهِ النُّقْرَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْجَهَالَةِ هاهنا لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُلُّ عَيْبٍ يَتَنَاوَلُ الْعُيُوبَ كُلَّهَا فَإِذَا سَمَّى جِنْسًا مِنْ الْعُيُوبِ لَا جَهَالَةَ لَهُ أَصْلًا مَعَ مَا أَنَّ التَّمْلِيكَ فِي الْإِبْرَاءِ؛ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَتَبَعًا لِلْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ الْإِسْقَاطِ لَا عَنْ التَّمْلِيكِ فَيُعْتَبَرُ التَّصَرُّفُ إسْقَاطًا لَا تَمْلِيكًا، وَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِسْقَاطَاتِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَوَارِيثَ قَدْ دُرِسَتْ فَقَالَ لَهُمَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اسْتِهِمَا وَأَوْجِبَا الْحَقَّ وَلْيَحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ» وَعَلَى هَذَا إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ اسْتِحْلَالِ مُعَامَلَاتِهِمْ فِي آخَرِ أَعْمَارِهِمْ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ.
وَأَمَّا بَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ بَعْدَ ظُهُورِهِ وَبَيْعُ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ بِشَرْطِ التَّرْكِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مُنْتَفَعًا بِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَإِمَّا إنْ كَانَ قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ بِأَنْ صَارَ مُنْتَفَعًا بِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ مُطْلَقًا، أَوْ بِشَرْطِ التَّرْكِ حَتَّى يَبْلُغَ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ فَبَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ جَازَ وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَقْطَعَ لِلْحَالِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ بَاعَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ جَازَ أَيْضًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَالْمُتَعَارَفُ هُوَ التَّرْكُ فَكَانَ هَذَا بَيْعًا بِشَرْطِ التَّرْكِ دَلَالَةً فَصَارَ كَمَا لَوْ شَرَطَ التَّرْكَ نَصًّا.
(وَلَنَا) أَنَّ التَّرْكَ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ نَصًّا؛ إذْ الْعَقْدُ مُطْلَقٌ عَنْ الشَّرْطِ أَصْلًا فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ خُصُوصًا إذَا كَانَ فِي التَّقْيِيدِ فَسَادُ الْعَقْدِ، وَإِنْ اشْتَرَى بِشَرْطِ التَّرْكِ؛ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ وَلَا جَرَى بِهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّرْكِ إلَّا بِإِعَارَةِ الشَّجَرَةِ وَالْأَرْضِ وَهُمَا مِلْكُ الْبَائِعِ فَصَارَ بِشَرْطِ التَّرْكِ شَارِطًا الْإِعَارَةَ فَكَانَ شَرْطُهُ صَفْقَةً فِي صَفْقَةٍ وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ هَذَا إذَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ وَكَذَا إذَا بَدَا صَلَاحُهُ فَبَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ مُطْلَقًا.
فَأَمَّا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ التَّرْكِ فَإِنْ لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا إذَا تَنَاهَى عِظَمُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا لِتَعَارُفِ النَّاسِ وَتَعَامُلِهِمْ ذَلِكَ، وَلَهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْطَ التَّرْكِ شَرْطٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُشْتَرِي وَالْعَقْدُ لَا يَقْتَضِيهِ وَلَيْسَ بِمُلَائِمٍ لِلْعَقْدِ أَيْضًا وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ يَكُونُ مُفْسِدًا كَمَا إذَا اشْتَرَى حِنْطَةً عَلَى أَنْ يَتْرُكَهَا فِي دَارِ الْبَائِعِ شَهْرًا قَوْلُهُ: النَّاسُ تَعَامَلُوا ذَلِكَ قُلْنَا: دَعْوَى تَعَامُلِ النَّاسِ شَرْطَ التَّرْكِ فِي الْمَبِيعِ مَمْنُوعَةٌ، وَإِنَّمَا التَّعَامُلُ بِالْمُسَامَحَةِ بِالتَّرْكِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَلَوْ اشْتَرَى مُطْلِقًا عَنْ شَرْطٍ فَتَرَكَ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَنَاهَى عِظَمُهُ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا النُّضْجُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ سَوَاءٌ تُرِكَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّهُ لَا يَزْدَادُ بَعْدَ التَّنَاهِي وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ إلَى حَالِ النُّضْجِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ التَّرْكُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ؛ جَازَ وَطَابَ لَهُ الْفَضْلُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ تَصَدَّقَ بِمَا زَادَ فِي إذْنِهِ عَلَى مَا كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ بِجِهَةٍ مَحْظُورَةٍ فَأَوْجَبَتْ خُبْثًا فِيهَا فَكَانَ سَبِيلُهَا التَّصَدُّقُ، فَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ الشَّجَرَ لِلتَّرْكِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ حَصَلَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ وَلَكِنْ لَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ جَوَازَهَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ فَمَا لَمْ يَتَعَامَلُوا فِيهِ لَا تَصِحُّ فِيهِ الْإِجَارَةُ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ إجَارَةُ الْأَشْجَارِ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ وَإِجَارَةُ الْأَوْتَادِ لِتَعْلِيقِ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهَا وَإِجَارَةُ الْكُتُبِ لِلْقِرَاءَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ حَتَّى لَمْ تَجِبْ الْأُجْرَةُ؛ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلَوْ أَخْرَجَتْ الشَّجَرَةُ فِي مُدَّةِ التَّرْكِ ثَمَرَةً أُخْرَى فَهِيَ لِلْبَائِعِ سَوَاءٌ كَانَ التَّرْكُ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِ الْبَائِعِ فَيَكُونُ لَهُ وَلَوْ حَلَّلَهَا لَهُ الْبَائِعُ جَازَ وَإِنْ اخْتَلَطَ الْحَادِثُ بَعْدَ الْعَقْدِ بِالْمَوْجُودَةِ عِنْدَهُ حَتَّى لَا يُعْرَفَ يُنْظَرُ إنْ كَانَ قَبْلَ التَّخْلِيَةِ بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ صَارَ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ بِالِاخْتِلَاطِ لِلْجَهَالَةِ وَتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ فَأَشْبَهَ الْعَجْزَ عَنْ التَّسْلِيمِ بِالْهَلَاكِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ لَمْ يَبْطُلْ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ قَبْضٌ، وَحُكْمُ الْبَيْعِ يَتِمُّ وَيَتَنَاهَى بِالْقَبْضِ وَالثَّمَرَةُ تَكُونُ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَاطِ مِلْكِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ اخْتِلَاطًا لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فَكَانَ الْكُلُّ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي الْمِقْدَارِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ يَدٍ لِوُجُودِ التَّخْلِيَةِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةً بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ بِأَنْ أَدْرَكَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ بِشَرْطِ التَّرْكِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَدْرَكَ الْكُلَّ فَاشْتَرَاهَا بِشَرْطِ التَّرْكِ؛ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَهُمَا فَبِإِدْرَاكِ الْبَعْضِ أَوْلَى.
(وَأَمَّا) عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْعَادَةِ فَإِنْ كَانَ صَلَاحُ الْبَاقِي مُتَقَارِبًا جَازَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الثِّمَارِ أَنْ لَا يُدْرِكَ الْكُلُّ دُفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ يَتَقَدَّمُ إدْرَاكُ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ وَيَلْحَقُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بَعْدَ إدْرَاكِ الْكُلِّ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَصَحَّ الشِّرَاءُ عِنْدَهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ يَتَأَخَّرُ إدْرَاكُ الْبَعْضِ عَنْ الْبَعْضِ تَأْخِيرًا فَاحِشًا كَالْعِنَبِ وَنَحْوِهِ يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيمَا أَدْرَكَ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَمْ يُدْرِكْ؛ لِأَنَّ عِنْدَ التَّأَخُّرِ الْفَاحِشِ يَلْتَحِقَانِ بِجِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.
(وَمِنْهَا): شَرْطُ الْأَجَلِ فِي الْمَبِيعِ الْعَيْنِ وَالثَّمَنِ الْعَيْنِ وَهُوَ أَنْ يُضْرَبَ لِتَسْلِيمِهَا أَجَلٌ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ التَّأْجِيلِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ تَمْلِيكٌ بِتَمْلِيكٍ وَتَسْلِيمٌ بِتَسْلِيمٍ وَالتَّأْجِيلُ يَنْفِي وُجُوبَ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ فَكَانَ مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ إلَّا أَنَّهُ شَرْطُ نَظَرٍ لِصَاحِبِ الْأَجَلِ لِضَرُورَةِ الْعَدَمِ تَرْفِيهًا لَهُ وَتَمْكِينًا مِنْ اكْتِسَابِ الثَّمَنِ فِي الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْأَعْيَانِ فَبَقِيَ التَّأْجِيلُ فِيهَا تَغْيِيرًا مَحْضًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، وَيَجُوزُ فِي الْمَبِيعِ الدَّيْنُ وَهُوَ السَّلَمُ بَلْ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَا يَجُوزُ فِي الثَّمَنِ الدَّيْنُ وَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ يُلَائِمُ الدُّيُونَ وَلَا يُلَائِمُ الْأَعْيَانَ؛ لِمَسَاسِ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ فِي الدُّيُونِ لَا فِي الْأَعْيَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
(وَمِنْهَا): شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَبَّدٍ فِي الْبَيْعِ.
(وَمِنْهَا): شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَمَجِيءِ الْمَطَرِ وَقُدُومِ فُلَانٍ وَمَوْتِ فُلَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ مُتَقَارِبَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَقُدُومِ الْحَاجِّ وَنَحْوِهَا.
(وَمِنْهَا): شَرْطُ خِيَارٍ غَيْرِ مُؤَقَّتٍ أَصْلًا وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ فَكَانَ شَرْطًا مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَإِنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْقِيَاسُ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ اسْتِحْسَانًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ: «أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ كَانَ يَغْبِنُ فِي التِّجَارَاتِ فَشَكَا أَهْلُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ إذَا بَايَعْت فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» فَبَقِيَ مَا وَرَاءَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
(وَمِنْهَا) شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِالزَّائِدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هَذَا الشَّرْطُ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا شَرَطَ الْخِيَارَ شَهْرَيْنِ وَلِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي خِيَارِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَعْلُولٌ بِالْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ بِالتَّأَمُّلِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْبَصَارَةِ بِالسِّلَعِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ لَهُ الْخِيَارُ أَبْصَرَ مِنْهُ فَفُوِّضَ الْخِيَارُ إلَيْهِ لِلتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى الثَّلَاثِ كَالْحَاجَةِ إلَى التَّأْجِيلِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ فِي الْأَصْلِ مِمَّا يَأْبَاهُ الْقِيَاسُ، وَالنَّصُّ أَمَّا الْقِيَاسُ فَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطٌ مُغَيِّرٌ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ.
وَأَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» وَهَذَا بَيْعُ الْغَرَرِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلُّقُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ عَلَى غَرَرِ سُقُوطِ الْخِيَارِ إلَّا أَنَّهُ وَرَدَ نَصٌّ خَاصٌّ بِجَوَازِهِ فَيَتْبَعُ مَوْرِدَ النَّصِّ، وَإِنَّهُ وَرَدَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَارَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا عَنْ النَّصِّ الْعَامِّ وَتُرِكَ الْقِيَاسُ فِيهِ فَيُعْمَلُ بِعُمُومِ النَّصِّ وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ فِيمَا وَرَاءِ هَذَا وَالْعَمَلُ بِقَوْلِ سَيِّدِ الْبَشَرِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَقَوْلُهُمَا: النَّصُّ مَعْلُولٌ بِالْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ قُلْنَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ فَالثَّلَاثُ مُدَّةٌ صَالِحَةٌ لِدَفْعِ الْغَبْنِ لِكَوْنِهَا صَالِحَةً لِلتَّأَمُّلِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لَهُ.
(وَأَمَّا) شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِالثَّلَاثِ فَمَا دُونَهَا فَلَيْسَ بِمُفْسِدٍ اسْتِحْسَانًا لِحَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ وَلِمَسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ وَالتَّدَارُكِ عِنْدَ اعْتِرَاضِ النَّدَمِ وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ لِلْعَاقِدِ أَوْ لِغَيْرِهِ بِأَنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِثَالِثٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لِلْعَاقِدِ.
مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ فَبَقِيَ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
(وَلَنَا) أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِالْحَاجَةِ إلَى التَّأَمُّلِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ صَلَحَ؛ أَجَازَهُ وَإِلَّا فَسَخَ، وَإِذَا جَازَ هَذَا الشَّرْطُ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمَشْرُوطِ لَهُ وَلِلْعَاقِدِ أَيْضًا وَلِمَا نَذْكُرُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةُ الْإِجَازَةِ وَالْفَسْخِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَاقِدُ مَالِكًا أَوْ وَصِيًّا أَوْ وَلِيًّا أَوْ وَكِيلًا فَيَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِصَاحِبِهِ الَّذِي عَاقَدَهُ.
(أَمَّا) الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ فَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ مِنْهُمَا مِنْ بَابِ النَّظَرِ لِلصَّغِيرِ فَيَمْلِكَانِهِ.
(وَأَمَّا) الْوَكِيلُ؛ فَلِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ مُطْلَقًا فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ، أَوْ الشَّرِيكُ شَرِكَةَ عِنَانٍ، أَوْ مُفَاوَضَةٍ يَمْلِكُ شَرْطَ الْخِيَارِ؛ لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا الْبَيْعُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَائِزٌ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ: أَنَّ هَذَا بَيْعٌ عُلِّقَتْ إقَالَتُهُ بِشَرْطِ عَدَمِ نَقْدِ الثَّمَنِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَتَعْلِيقُ الْإِقَالَةِ بِالشَّرْطِ فَاسِدٌ، فَكَانَ هَذَا بَيْعًا دَخَلَهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ؛ فَيَكُونُ فَاسِدًا كَسَائِرِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي دَخَلَتْهَا شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِوُجُودِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ الْمُسْتَدْعِيَةِ لِلْجَوَازِ، أَمَّا التَّعْلِيقُ فَإِنَّهُ عَلَّقَ إقَالَةَ هَذَا الْبَيْعِ وَفَسْخَهُ بِشَرْطِ عَدَمِ النَّقْدِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَفِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عَلَّقَ انْعِقَادَهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِشَرْطِ سُقُوطِ الْخِيَارِ.
وَأَمَّا الْحَاجَةُ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ فِي الْمَبِيعِ أَنَّهُ هَلْ يُوَافِقُهُ أَمْ لَا؟ فَالْبَائِعُ يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ أَنَّهُ هَلْ يَصِلُ الثَّمَنُ إلَيْهِ فِي الثَّلَاثِ أَمْ لَا؟ وَكَذَا الْمُشْتَرِي يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ أَنَّهُ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى النَّقْدِ فِي الثَّلَاثِ أَمْ لَا؟ فَكَانَ هَذَا بَيْعًا مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى جَوَازِهِ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَوُرُودُ الشَّرْعِ بِالْجَوَازِ هُنَاكَ يَكُونُ وُرُودًا هاهنا دَلَالَةً.
وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، كَمَا لَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَكْثَرَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ هَاهُنَا: لَا يَجُوزُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فَأَبُو حَنِيفَةَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ، وَلَمْ يَجُزْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ وَأَجَازَ فِيهِمَا، وَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لَهُ: أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الْجَوَازَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا إلَّا أَنَّ الْجَوَازَ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ عَرَفْنَاهُ بِأَثَرِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَبَقِيَ هَذَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ عَزَّ شَأْنُهُ- أَعْلَمُ.
وَيَتَّصِلُ بِالشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ مَا إذَا بَاعَ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهِ مِنْ الْحَمْلِ: إنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْحَمْلِ بِانْفِرَادِهِ لَا يَجُوزُ؛ فَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ أُدْخِلَ فِي الْبَيْعِ فَوَجَبَ فَسَادُ الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالرَّهْنِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْحَمْلِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَا يُبْطِلُهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْإِعْتَاقِ؛ لِمَا أَنَّ اسْتِثْنَاءَ مَا فِي الْبَطْنِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ، وَالْبَيْعُ وَأَخَوَاتُهُ تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ؛ فَكَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا، وَالْعَقْدُ فَاسِدًا فَأَمَّا النِّكَاحُ وَنَحْوُهُ فَلَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَجَازَ الْعَقْدُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ؛ فَيَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ جَمِيعًا، وَكَذَا فِي الْعِتْقِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى شَيْئًا مِنْ أَطْرَافِهِ؛ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ.
وَلَوْ بَاعَ صُبْرَةً وَاسْتَثْنَى قَفِيزًا مِنْهَا؛ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَكَذَا إذَا بَاعَ صُبْرَةً وَاسْتَثْنَى جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا: ثُلُثَهَا، أَوْ رُبُعَهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلَوْ بَاعَ قَطِيعًا مِنْ الْغَنَمِ وَاسْتَثْنَى شَاةً مِنْهَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا؛ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَلَوْ اسْتَثْنَى شَاةً مِنْهَا بِعَيْنِهَا؛ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ مَنْ بَاعَ جُمْلَةً وَاسْتَثْنَى مِنْهَا شَيْئًا فَإِنْ اسْتَثْنَى مَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ؛ فَالْبَيْعُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ جَائِزٌ، وَإِنْ اسْتَثْنَى مَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ؛ فَالْبَيْعُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَاسِدٌ.
وَلَوْ بَاعَ الثَّمَرَةَ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ وَاسْتَثْنَى مِنْهَا صَاعًا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فَأَشْبَهَ مَا إذَا بَاعَ جُزْءًا مُشَاعًا مِنْهُ مِنْ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الثَّمَرُ مَجْذُوذًا فَبَاعَ الْكُلَّ وَاسْتَثْنَى صَاعًا يَجُوزُ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْمَجْذُوذِ وَغَيْرِ الْمَجْذُوذِ؟ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِلِيهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّإِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ ثَمَرَةً وَيَسْتَثْنِيَ مِنْهَا بَعْضَهَا إذَا اسْتَثْنَى شَيْئًا فِي جُمْلَتِهِ رُبُعًا، أَوْ خُمُسًا، أَوْ سُدُسًا قُيِّدَ الْجَوَازُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مُشَاعًا فِي الْجُمْلَةِ، فَلَوْ ثَبَتَ الْجَوَازُ فِي الْمُعَيَّنِ لَمْ يَكُنْ لِتَقْيِيدِهِ بِهَذَا الشَّرْطِ مَعْنًى، وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ، وَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُخْتَصَرِهِ ثُمَّ فَسَادُ الْعَقْدِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الشُّرُوطِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْبَيْعُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ.
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ جَائِزٌ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ فَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ كُلِّ بَيْعٍ وَشَرْطٍ إلَّا مَا خُصَّ عَنْ عُمُومِ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ بَعْضُهَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ زَائِدَةٌ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ إلَى غَيْرِهِمَا، وَزِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ تَكُونُ رِبًا وَالرِّبَا حَرَامٌ، وَالْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ رِبًا فَاسِدٌ وَبَعْضُهَا فِيهِ غَرَرٌ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرٌ» وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَاسِدٌ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ التَّلَهِّي وَأَنَّهُ مَحْظُورٌ، وَبَعْضُهَا يُغَيِّرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ مَعْنَى الْفَسَادِ، إذْ الْفَسَادُ هُوَ التَّغْيِيرُ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
ثُمَّ قِرَانُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ بِالْعَقْدِ وَإِلْحَاقُهُ بِهِ سَوَاءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَتَّى لَوْ بَاعَ بَيْعًا صَحِيحًا، ثُمَّ أَلْحَقَ بِهِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ يَلْتَحِقُ بِهِ وَيُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْتَحِقُ بِهِ، وَلَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَلْحَقَ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ شَرْطًا صَحِيحًا كَالْخِيَارِ الصَّحِيحِ فِي الْبَيْعِ الْبَاتِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَلْتَحِقُ بِهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: إنَّ إلْحَاقَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ بِالْعَقْدِ يُغَيِّرُ الْعَقْدَ مِنْ الصِّحَّةِ إلَى الْفَسَادِ فَلَا يَصِحُّ؛ فَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَلَامٌ لَا بَقَاءَ لَهُ، وَالِالْتِحَاقُ بِالْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الْإِلْحَاقُ أَصْلًا، إلَّا أَنَّ إلْحَاقَ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ثَبَتَ شَرْعًا لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ حَتَّى صَحَّ قِرَانُهُ بِالْعَقْدِ؛ فَيَصِحُّ إلْحَاقُهُ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إلْحَاقِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ لِيُفْسِدَ الْعَقْدَ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ قِرَانُهُ بِالْعَقْدِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اعْتِبَارَ التَّصَرُّفِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ الْمُتَصَرِّفُ وَاجِبٌ إذَا كَانَ هُوَ أَهْلًا وَالْمَحَلُّ قَابِلًا، وَقَدْ أَوْقَعَهُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ، إذْ الْإِلْحَاقُ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَمَا أَوْقَعَهُ فَاسِدًا فِي الْأَصْلِ، وَقَوْلُهُمَا الْإِلْحَاقُ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ؛ قُلْنَا: إنْ كَانَ تَغْيِيرًا فَلَهُمَا وِلَايَةُ التَّغْيِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُمَا وِلَايَةَ التَّغْيِيرِ بِالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ، وَالْمُثَمَّنِ، وَالْحَطِّ عَنْ الثَّمَنِ وَبِإِلْحَاقِ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ وَإِنْ كَانَ تَغْيِيرًا؛ وَلِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْفَسْخَ فَالتَّغْيِيرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ تَبْدِيلُ الْوَصْفِ، وَالْفَسْخَ رَفْعُ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) الرِّضَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} عَقِيبَ قَوْلِهِ- عَزَّ اسْمُهُ- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ» فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُكْرَهِ إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا؛ لِعَدَمِ الرِّضَا، فَأَمَّا إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ طَائِعًا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ؛ وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْهَازِلِ؛ لِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ الْبَيْعِ لَا عَلَى إدَارَةِ حَقِيقَتِهِ فَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا بِالْبَيْعِ، فَلَا يَصِحُّ بِخِلَافِ طَلَاقِ الْهَازِلِ أَنَّهُ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْإِكْرَاهِ لَيْسَ إلَّا الرِّضَا، وَالرِّضَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ عَلَى أَنَّ الْهَزْلَ فِي بَابِ الطَّلَاقِ مُلْحَقٌ بِالْجِدِّ شَرْعًا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: الطَّلَاقُ، وَالنِّكَاحُ وَالْعَتَاقُ» أَلْحَقَ الْهَازِلَ بِالْجَادِّ فِيهِ.
وَمِثْلُ هَذَا لَمْ يَرِدْ فِي الْبَيْعِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ، وَالْمُلَامَسَةِ، وَالْحَصَاةِ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ: كَانَ الرَّجُلَانِ يَتَسَاوَمَانِ السِّلْعَةَ فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمَا إلْزَامَ الْبَيْعِ نَبَذَ السِّلْعَةَ إلَى الْمُشْتَرِي؛ فَيَلْزَمُ الْبَيْعُ رَضِيَ الْمُشْتَرِي أَمْ سَخِطَ، أَوْ لَمَسَهَا الْمُشْتَرِي، أَوْ وَضَعَ عَلَيْهَا حَصَاةً فَجَاءَ الْإِسْلَامُ فَشَرَطَ الرِّضَا وَأَبْطَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ بَيْعُ التَّلْجِئَةِ وَهِيَ مَا لَجَأَ الْإِنْسَانُ إلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ اخْتِيَارِ الْإِيثَارِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ التَّلْجِئَةَ فِي الْأَصْلِ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي إنْشَاءِ الْبَيْعِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي إنْشَاءِ الْبَيْعِ بِأَنْ تَوَاضَعُوا فِي السِّرِّ لِأَمْرٍ أَلْجَأَهُمْ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَظْهَرَ الْبَيْعُ، وَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً وَإِنَّمَا هُوَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ نَحْوَ أَنْ يَخَافَ رَجُلٌ السُّلْطَانَ فَيَقُولُ الرَّجُلُ: إنِّي أُظْهِرُ أَنِّي بِعْت مِنْك دَارِي وَلَيْسَ بِبَيْعٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ تَلْجِئَةٌ فَتَبَايَعَا؛ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُمَا تَكَلَّمَا بِصِيغَةِ الْبَيْعِ لَا عَلَى قَصْدِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْهَزْلِ، وَالْهَزْلُ يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يُعْدِمُ الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعًا مُنْعَقِدًا فِي الْحُكْمِ.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا شَرَطَاهُ فِي السِّرِّ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا عَقَدَا عَقْدًا صَحِيحًا بِشَرَائِطِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الشَّرْطِ، كَمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِطَا شَرْطًا فَاسِدًا عِنْدَ الْبَيْعِ، ثُمَّ بَاعَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ هَذَا الْبَيْعِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَا وُجُودَ الشَّرْطِ عِنْدَ الْبَيْعِ لَا تَنْدَفِعُ الضَّرُورَةُ، وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَجَازَاهُ جَازَ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ السَّابِقَ وَهُوَ: الْمُوَاضَعَةُ مَنَعَتْ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا، وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى عَبْدًا فَقَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ، بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ إذَا بَاعَ وَسَلَّمَ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ انْعَقَدَ سَبَبًا لِلْحُكْمِ؛ لِوُجُودِ الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ عَقْلًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ صِيَانَةِ نَفْسِهِ عَنْ الْهَلَاكِ فَانْعَقَدَ السَّبَبُ إلَّا أَنَّهُ فَسَدَ؛ لِانْعِدَامِ الرِّضَا طَبْعًا فَتَأَخَّرَ الْمِلْكُ فِيهِ إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ، أَمَّا هاهنا فَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ فِي الْجَانِبَيْنِ أَصْلًا؛ فَلَمْ يَنْعَقِدْ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَتَوَقَّفَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ بِشَرْطِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، هَذَا إذَا كَانَتْ التَّلْجِئَةُ فِي إنْشَاءِ الْبَيْعِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُقِرَّا بِبَيْعٍ لَمْ يَكُنْ فَأَقَرَّا بِذَلِكَ ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ حَتَّى لَا يَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ، وَصِحَّةُ الْإِخْبَارِ بِثُبُوتِ الْمُخْبَرِ بِهِ حَالَ وُجُودِ الْإِخْبَارِ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا كَانَ الْإِخْبَارُ صِدْقًا وَإِلَّا فَيَكُونُ كَذِبًا، وَالْمُخْبَرُ بِهِ هاهنا وَهُوَ الْبَيْعُ لَيْسَ بِثَابِتٍ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ؛ لِأَنَّهَا تَلْحَقُ الْمَوْجُودَ لَا الْمَعْدُومَ، هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَتْ التَّلْجِئَةُ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ إنْشَاءً كَانَ، أَوْ إقْرَارًا.
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي الثَّمَنِ فَهَذَا أَيْضًا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا إنْ كَانَتْ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، وَإِمَّا إنْ كَانَتْ فِي جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَتْ فِي قَدْرِهِ بِأَنْ تَوَاضَعَا فِي السِّرِّ وَالْبَاطِنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَلْفًا وَيَتَبَايَعَانِ فِي الظَّاهِرِ بِأَلْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَقُولَا عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ أَلْفٌ مِنْهُمَا رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالثَّمَنُ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِلْمَذْكُورِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْمَذْكُورُ عِنْدَ الْعَقْدِ أَلْفَانِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا أَنَّ أَحَدَهُمَا رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ صَحَّتْ تَسْمِيَةُ الْأَلْفَيْنِ، وَإِنْ قَالَا عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ أَلْفٌ مِنْهُمَا رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالثَّمَنُ ثَمَنُ السِّرِّ، وَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الثَّمَنَ ثَمَنُ الْعَلَانِيَةِ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الثَّمَنَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ، وَالْأَلْفَانِ مَذْكُورَانِ فِي الْعَقْدِ وَمَا ذَكَرَا فِي الْمُوَاضَعَةِ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ فَلَا يُعْتَبَرُ.
(وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ فِي السِّرِّ هُوَ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ فِي الْعَلَانِيَةِ إلَّا أَنَّهُمَا زَادَا عَلَيْهِ أَلْفًا أُخْرَى، وَالْمُوَاضَعَةُ السَّابِقَةُ أَبْطَلَتْ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّهُمَا فِي هُزْلَانِهَا حَيْثُ لَمْ يَقْصِدَاهَا فَلَمْ يَصِحَّ ذِكْرُ الزِّيَادَةِ فِي الْبَيْعِ؛ فَيَبْقَى الْبَيْعُ بِمَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَلْفُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي جِنْسِهِ بِأَنْ اتَّفَقَا فِي السِّرِّ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَكِنَّهُمَا يُظْهِرَا أَنَّ الْبَيْعَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَإِنْ لَمْ يَقُولَا فِي الْمُوَاضَعَةِ: إنَّ ثَمَنَ الْعَلَانِيَةِ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالثَّمَنُ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ قَالَا ذَلِكَ فَالْقِيَاسُ: أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَصِحُّ بِمِائَةِ دِينَارٍ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ: أَنَّ ثَمَنَ السِّرِّ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ، وَثَمَنَ الْعَلَانِيَةِ لَمْ يَقْصِدَاهُ فَقَدْ هَزِلَا بِهِ فَسَقَطَ، وَبَقِيَ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ فَلَا يَصِحُّ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا بَيْعًا بَاطِلًا، بَلْ بَيْعًا صَحِيحًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ إلَّا بِثَمَنِ الْعَلَانِيَةِ فَكَأَنَّهُمَا انْصَرَفَا عَمَّا شَرَطَاهُ فِي الْبَاطِنِ؛ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ كَمَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَبِيعَاهُ بَيْعَ تَلْجِئَةٍ فَتَوَاهَبَا بِخِلَافِ الْأَلْفِ، وَالْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الْمَذْكُورَ الْمَشْرُوطَ فِي السِّرِّ مَذْكُورٌ فِي الْعَقْدِ، وَزِيَادَةٌ فَتَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِهِ هَذَا إذَا تَوَاضَعَا فِي السِّرِّ، وَلَمْ يَتَعَاقَدَا فِي السِّرِّ فَأَمَّا إذَا تَعَاقَدَا فِي السِّرِّ بِثَمَنٍ ثُمَّ تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُظْهِرَا الْعَقْدَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ بِجِنْسٍ آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يَقُولَا: إنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ رِيَاءٌ، وَسُمْعَةٌ فَالْعَقْدُ الثَّانِي يَرْفَعُ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْإِقَالَةَ فَشُرُوعُهُمَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي إبْطَالٌ لِلْأَوَّلِ فَبَطَلَ الْأَوَّلُ، وَانْعَقَدَ الثَّانِي بِمَا سُمِّي عِنْدَهُ، وَإِنْ قَالَا: رِيَاءٌ، وَسُمْعَةٌ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ فَالْعَقْدُ هُوَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا الرِّيَاءَ، وَالسُّمْعَةَ فَقَدْ أَبْطَلَا الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الثَّانِي فَلَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ الثَّانِي فَبَقِيَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ فَالْعَقْدُ هُوَ الْعَقْدُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَكَانَ الْعَقْدُ هُوَ الْعَقْدُ الثَّانِي، لَكِنْ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا أَبْطَلَاهَا حَيْثُ هَزِلَا بِهَا هَذَا إذَا تَوَاضَعَا، وَاتَّفَقَا فِي التَّلْجِئَةِ فِي الْبَيْعِ فَتَبَايَعَا وَهُمَا مُتَّفِقَانِ عَلَى مَا تَوَاضَعَا، فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فَادَّعَى أَحَدُهُمَا التَّلْجِئَةَ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، وَزَعَمَ أَنَّ الْبَيْعَ بَيْعُ رَغْبَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُنْكِرِ التَّلْجِئَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ مِنْ التَّلْجِئَةِ إذَا طَلَبَ الثَّمَنَ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّلْجِئَةِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشَّرْطَ بِالْبَيِّنَةِ فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ كَمَا لَوْ أَثْبَتَ الْخِيَارَ بِالْبَيِّنَةِ، ثُمَّ هَذَا التَّفْرِيعُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْمُوَاضَعَةَ السَّابِقَةَ، فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ فَلَا يَجِيءُ هَذَا التَّفْرِيعُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْعَقْدَ الظَّاهِرَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى هَذِهِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهَا- وَإِنْ صَحَّتْ- لَا تُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ الظَّاهِرِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَيْهِ فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي جَوَازَ الْبَيْعِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي التَّلْجِئَةَ، وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ، وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى التَّلْجِئَةِ ثُمَّ قَالَا عِنْدَ الْبَيْعِ: كُلُّ شَرْطٍ كَانَ بَيْنَنَا فَهُوَ بَاطِلٌ تَبْطُلُ التَّلْجِئَةُ، وَيَجُوزُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ زَائِدٌ فَاحْتَمَلَ السُّقُوطَ بِالْإِسْقَاطِ، وَمَتَى سَقَطَ صَارَ الْعَقْدُ جَائِزًا، إلَّا إذَا اتَّفَقَا عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ، وَقَالَا: إنَّ مَا نَقُولُهُ عِنْدَ الْبَيْعِ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ بَيْنَنَا فَهُوَ بَاطِلٌ فَذَلِكَ الْقَوْلُ مِنَّا بَاطِلٌ، فَإِذَا قَالَا ذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ مَا يُبْطِلَانِهِ مِنْ الشَّرْطِ عَنْدَ الْعَقْدِ بَاطِلٌ إلَّا إذَا حَكَيَا فِي الْعَلَانِيَةِ مَا قَالَا فِي السِّرِّ فَقَالَا: إنَّا شَرَطْنَا كَذَا، وَكَذَا، وَقَدْ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ ثُمَّ تَبَايَعَا فَيَجُوزُ الْبَيْعُ، ثُمَّ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ التَّلْجِئَةِ لَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ بِالتَّلْجِئَةِ بِأَنْ يَقُولَ لِآخَرَ: إنِّي أُقِرُّ لَكَ فِي الْعَلَانِيَةِ بِمَالِي، أَوْ بِدَارِي، وَتَوَاضَعَا عَلَى فَسَادِ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ حَتَّى لَا يَمْلِكَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَخُصُّ بَعْضَ الْبِيَاعَاتِ دُونَ بَعْضٍ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا:
(مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا فِي بَيْعٍ فِيهِ أَجَلٌ فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا يَفْسُدُ الْبَيْعُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً: كَهُبُوبِ الرِّيحِ، وَمَطَرِ السَّمَاءِ، وَقُدُومِ فُلَانٍ، وَمَوْتِهِ، وَالْمَيْسَرَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ مُتَقَارِبَةً: كَالْحَصَادِ، وَالدِّيَاسِ، وَالنَّيْرُوزِ، وَالْمِهْرَجَانِ، وَقُدُومِ الْحَاجِّ، وَخُرُوجِهِمْ، وَالْجُذَاذِ، وَالْجِزَارِ، وَالْقِطَافِ، وَالْمِيلَادِ، وَصَوْمِ النَّصَارَى، وَفِطْرِهِمْ قَبْلَ دُخُولِهِمْ فِي صَوْمِهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ غَرَرُ الْوُجُودِ، وَالْعَدَمِ، وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِمَّا يَتَقَدَّمُ، وَيَتَأَخَّرُ فَيُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ، وَلَوْ بَاعَ الْعَيْنَ بِثَمَنِ دَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً مُتَقَارِبَةً، ثُمَّ أَبْطَلَ الْمُشْتَرِي الْأَجَلَ قَبْلَ مَحَلِّهِ، وَقَبْلَ أَنْ يُفْسَخَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا لِأَجْلِ الْفَسَادِ جَازَ الْعَقْدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ لَمْ يَبْطُلْ حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ، وَأَخَذَ النَّاسُ فِي الْحَصَادِ، ثُمَّ أَبْطَلَ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً فَأَبْطَلَ الْمُشْتَرِي الْأَجَلَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَنَقَدَ الثَّمَنَ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْإِبْطَالِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَلَمْ يُوَقِّتْ لِلْخِيَارِ وَقْتًا مَعْلُومًا بِأَنْ قَالَ: أَبَدًا، أَوْ أَيَّامًا، أَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ حَتَّى فَسَدَ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَبْطَلَ خِيَارَهُ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَبْلَ أَنْ يَفْسُدَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِنْ أَبْطَلَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَزُفَرَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ، وَإِنْ وَقَّتَ وَقْتًا مَعْلُومًا بِأَنْ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، أَوْ شَهْرٌ فَأَبْطَلَ الْخِيَارَ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَبْلَ أَنْ يُفْسَخَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا لِأَجْلِ الْفَسَادِ جَازَ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ، وَعِنْدَهُمَا هَذَا الْخِيَارُ جَائِزٌ، وَلَوْ مَضَتْ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ، ثُمَّ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ عَقَدَا عَقْدَ السَّلَمِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ حَتَّى فَسَدَ السَّلَمُ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَبْطَلَ خِيَارَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ جَازَ السَّلَمُ عِنْدَنَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ قَائِمًا فِي يَدِهِ، وَلَوْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْإِبْطَالِ، ثُمَّ أَبْطَلَ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِرَقْمِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي رَقْمَهُ حَتَّى فَسَدَ الْبَيْعُ، ثُمَّ عَلِمَ رَقْمَهُ.
فَإِنْ عَلِمَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ زُفَرَ: أَنَّ الْبَيْعَ إذَا انْعَقَدَ عَلَى الْفَسَادِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الْفَسَادِ، فَإِنْ كَانَ قَوِيًّا بِأَنْ دَخَلَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْبَدَلُ، أَوْ الْمُبْدَلُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ كَمَا قَالَ زُفَرُ: إذَا بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرَطْلٍ مِنْ خَمْرٍ فَحَطَّ الْخَمْرَ عَنْ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَمْ يَدْخُلْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بَلْ فِي شَرْطٍ جَائِزٍ يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارٍ لَمْ يُوَقَّتْ أَوْ وُقِّتَ إلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ كَالْحَصَادِ، وَالدِّيَاسِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ، وَكَمَا فِي بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي الْعِبَارَةِ عَنْ هَذَا الْعَقْدِ.
قَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ: إنَّهُ انْعَقَدَ فَاسِدًا لَكِنْ فَسَادًا غَيْرَ مُتَقَرِّرٍ، فَإِنْ أَبْطَلَ الشَّرْطَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ بِأَنْ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْحَصَادِ، أَوْ الْيَوْمُ الرَّابِعُ يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ، وَإِنْ لَمْ يُبْطِلْ حَتَّى دَخَلَ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَقَالَ مَشَايِخُ خُرَاسَانَ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا: بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ الْعَقْدُ مَوْقُوفٌ إنْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ قَبْلَ وَقْتِ الْحَصَادِ، وَالْيَوْمِ الرَّابِعِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا مِنْ الْأَصْلِ، وَإِنْ لَمْ يُسْقِطْ حَتَّى دَخَلَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ، أَوْ أَوَانُ الْحَصَادِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ فَاسِدًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَالْبَيْعُ مَوْقُوفٌ.
فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ أَنَا أُبْطِلُ خِيَارِي وَاسْتَوْجَبَ الْمَبِيعَ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ شَيْئًا كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَتَمَّ الْبَيْعُ، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ، وَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ قَدْ أَبْطَلْت الْبَيْعَ قَبْلَ أَنْ يُبْطِلَ الْمُشْتَرِي خِيَارَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَوْجِبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنْ يُبْطِلَ خِيَارَهُ فَقَدْ نَصَّ عَلَى التَّوَقُّفِ، وَفَسَّرَهُ حَيْثُ جَعَلَ لِلْبَائِعِ حَقَّ الْفَسْخِ قَبْلَ إجَازَةِ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا أَمَارَةُ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ: أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ حَقُّ الْفَسْخَ، (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ هَذَا بَيْعٌ انْعَقَدَ بِوَصْفِ الْفَسَادِ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْقَلِبَ جَائِزًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَنْقَلِبْ إلَى الْجَوَازِ إذَا دَخَلَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ، أَوْ وَقْتُ الْحَصَادِ، وَالدِّيَاسِ.
(وَلَنَا) طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ مَوْقُوفٌ لِلْحَالِ لَا يُوصَفُ بِالْفَسَادِ، وَلَا بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا حَقِيقَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ، فَإِذَا سَقَطَ قَبْلَ دُخُولِ أَوَانِ الْحَصَادِ، وَالْيَوْمِ الرَّابِعِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا شَرَطَ الْأَجَلَ، وَالْخِيَارَ إلَّا إلَى هَذَا الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا مُفِيدًا لِلْمِلْكِ بِنَفْسِهِ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الْأَجَلَ الصَّحِيحَ، وَالْخِيَارَ الصَّحِيحَ، وَهُوَ خِيَارُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ مُضِيِّ يَوْمٍ، وَإِنْ لَمْ يُسْقِطْ حَتَّى مَضَتْ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ، وَدَخَلَ الْحَصَادُ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ كَانَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ مُفْسِدٌ، وَالثَّانِي أَنَّ الْعَقْدَ فِي نَفْسِهِ مَشْرُوعٌ، لَا يَحْتَمِلُ الْفَسَادَ عَلَى مَا عُرِفَ، وَكَذَا أَصْلُ الْأَجَلِ، وَالْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ، وَأَنَّهُ يُوصَفُ الْعَقْدُ بِالْفَسَادِ لِلْحَالِ لَا لِعَيْنِهِ بَلْ لِمَعْنًى مُجَاوِرٍ لَهُ زَائِدٍ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَصْلِ الْأَجَلِ، وَالْخِيَارِ، وَهُوَ الْجَهَالَةُ، وَزِيَادَةُ الْخِيَارِ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَشْرُوعَةِ فَإِنْ سَقَطَ قَبْلَ دُخُولِ، وَقْتِ الْحَصَادِ أَوْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَقَدْ أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ فَزَالَ الْفَسَادُ؛ فَبَقِيَ الْعَقْدُ مَشْرُوعًا كَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ، وَصْفِ الْفَسَادِ، وَإِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ فَقَدْ تَقَرَّرَ الْمُفْسِدُ، فَتَقَرَّرَ الْفَسَادُ، وَالْفَسَادُ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ لَا يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ وَقَوْلُهُ: الْعَقْدُ مَا وَقَعَ فَاسِدًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ قُلْنَا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ: مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي: مُسَلَّمٌ لَكِنْ لَا لِعَيْنِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الشَّرْطُ الْمُجَاوِرُ الْمُفْسِدُ، وَقَدْ أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ فَزَالَ الْفَسَادُ الثَّابِتُ؛ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ فَبَقِيَ مَشْرُوعًا، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ-.
وَلَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ، ثُمَّ أَخَّرَ إلَى الْآجَالِ الْمُتَقَارِبَةِ جَازَ التَّأْخِيرُ، وَلَوْ أَخَّرَ إلَى الْآجَالِ الْمُتَفَاحِشَةِ لَمْ يَجُزْ، وَالدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ حَالٌّ فَرَّقَ بَيْنَ التَّأْجِيلِ، وَالتَّأْخِيرِ، وَلَمْ يُجَوِّزْ التَّأْجِيلَ إلَى هَذِهِ الْآجَالِ أَصْلًا، وَجَوَّزَ التَّأْخِيرَ إلَى الْمُتَقَارِبِ مِنْهَا، وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْعَقْدِ جَعْلُ الْأَجَلِ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ، وَجَهَالَةُ الْأَجَلِ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَةً تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَأَمَّا التَّأْخِيرُ إلَى الْآجَالِ الْمَجْهُولَةِ مُتَقَارِبَةً فَلَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُؤَخِّرُونَ الدُّيُونَ إلَى هَذِهِ الْآجَالِ عَادَةً، وَمَبْنَى التَّأْخِيرِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُسَامِحُونَ، وَلَا يُنَازِعُونَ، وَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ مِنْهُمْ بِالتَّأْخِيرِ إلَى آجَالٍ تَفْحُشُ جَهَالَتُهَا بِخِلَافِ التَّأْجِيلِ؛ لِأَنَّ مَا جُعِلَ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُضَايَقَةِ، فَالْجَهَالَةُ فِيهَا وَإِنْ قَلَّتْ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَى الْآجَالِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَجَازَتْ الْكَفَالَةُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْكَفَالَةِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، فَإِنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ لَا يُضَيِّقُ الْأَمْرَ عَلَى الْكَفِيلِ عَادَةً؛ لِأَنَّ لَهُ سَبِيلَ الْوُصُولِ إلَى الدَّيْنِ مِنْ جِهَةِ الْأَصِيلِ فَالتَّأْجِيلُ إلَيْهَا لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْجَهَالَةَ فِي بَابِ الْبَيْعِ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَكَانَتْ مُفْسِدَةً لِلْبَيْعِ.
وَلَوْ اشْتَرَى عَيْنًا بِثَمَنِ دَيْنٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الثَّمَنَ فِي مِصْرٍ آخَرَ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِمَّا حَمْلَ لَهُ، وَلَا مُؤْنَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ حَمْلٌ، وَمُؤْنَةٌ، وَعَلَى كُلِّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ ضَرَبَ لَهُ الْأَجَلَ أَوْ لَمْ يَضْرِبْ فَإِنْ لَمْ يَضْرِبْ لَهُ الْأَجَلَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ لَهُ حَمْلٌ، وَمُؤْنَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَضْرِبْ لَهُ الْأَجَلَ كَانَ شَرْطُ التَّسْلِيمِ فِي مَوْضِعٍ عَلَى سَبِيلِ التَّأْجِيلِ، وَأَنَّهُ أَجَلٌ مَجْهُولٌ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ لَا حَمْلَ لَهُ، وَلَا مُؤْنَةَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّأْجِيلِ فِي مَكَان آخَرَ لَيْسَ بِتَأْجِيلٍ حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ تَخْصِيصُ التَّسْلِيمِ بِمَكَانٍ آخَرَ فَيَجُوزُ الْبَيْعُ، وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ طَالَبَهُ، وَإِنْ ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الثَّمَنَ بَعْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ فِي مِصْرٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ مِقْدَارَ مَا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ فِي قَدْرِ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ فِيهِ إلَى الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَضْرِبْ، وَإِنْ كَانَ ضَرَبَ أَجَلًا يُمْكِنُ الْوُصُولُ فِيهِ إلَى الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَالتَّأْجِيلُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا يُمْكِنُ الْوُصُولُ فِيهِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ عُلِمَ أَنَّ شَرْطَ التَّسْلِيمِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ التَّأْجِيلِ، بَلْ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِالتَّسْلِيمِ فِيهِ.
فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَطَالَبَهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا لَيْسَ لَهُ حَمْلٌ، وَلَا مُؤْنَةٌ يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ طَالَبَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ حِلِّ الْأَجَلِ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ لَهُ حَمْلٌ، وَمُؤْنَةٌ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ، وَأَبَى الْبَائِعُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا فَشَرَطَ تَسْلِيمَهُ فِي مِصْرٍ آخَرَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ سَوَاءٌ شَرَطَ الْأَجَلَ، أَوْ لَمْ يَشْرُطْ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) الْقَبْضُ فِي بَيْعِ الْمُشْتَرِي الْمَنْقُولَ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ»، وَالنَّهْيُ يُوجِبُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ فِيهِ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ فَيَنْفَسِخُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرٌ»، وَسَوَاءٌ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ، أَوْ مِنْ بَائِعِهِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ مُطْلَقٌ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ مِنْ بَائِعِهِ، وَكَذَا مَعْنَى الْغَرَرِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا فَلَا يَصِحُّ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ عَلَى حَالِهِ.
وَلَا يَجُوزُ إشْرَاكُهُ، وَتَوْلِيَتُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بَيْعٌ، وَلَوْ قَبَضَ نِصْفَ الْمَبِيعِ دُونَ النِّصْفِ فَأَشْرَكَ رَجُلًا لَمْ يَجُزْ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ، وَجَازَ فِيمَا قَبَضَ؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ نَوْعُ بَيْعٍ، وَالْمَبِيعُ مَنْقُولٌ فَلَمْ يَكُنْ غَيْرُ الْمَقْبُوضِ مَحَلًّا لَهُ شَرْعًا فَلَمْ يَصِحَّ فِي غَيْرِ الْمَقْبُوضِ، وَصَحَّ فِي قَدْرِ الْمَقْبُوضِ، وَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ، وَمِلْكُ الْمَنْفَعَةِ تَابِعٌ لِمِلْكِ الْعَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ؛ وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ النَّهْيِ يَتَنَاوَلُ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ بَيْعٍ، وَهُوَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ.
وَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ بِعِوَضٍ، وَغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَذَا تَدْبِيرُهُ، وَاسْتِيلَادُهُ بِأَنْ كَانَتْ أَمَةً فَأَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ وَلَدَتْ لَهُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ قِيَامَ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَقَدْ وُجِدَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ صِحَّتَهُ تَفْتَقِرُ إلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالْيَدِ جَمِيعًا؛ لِافْتِقَارِهِ إلَى التَّسْلِيمِ، وَكَذَا الْإِجَارَةُ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَلِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْقَبْضُ، وَبِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَصِيرُ قَابِضًا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-، وَلِأَنَّ الْفَسَادَ لِتَمَكُّنِ الْغَرَرِ، وَهُوَ غَرَرُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِمَا نَذْكُرُهُ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ فَلَمْ يُوجَدْ فَلَزِمَ الْجَوَازُ بِدَلِيلِهِ، وَهَلْ تَجُوزُ كِتَابَتُهُ؟ لَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِنَا فَاحْتُمِلَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَجُوزُ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالْإِقَالَةَ، وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ فَرْقًا بَيْنَهَا، وَبَيْنَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهَا أَوْسَعُ إضْرَارًا مِنْ الْبَيْعِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا كَاتَبَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُبْطِلَهُ فَإِنْ لَمْ يُبْطِلْهُ حَتَّى نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ جَازَتْ الْكِتَابَةُ ذَكَرَهَا فِي الْعُيُونِ، وَلَوْ وَهَبَهُ مِنْ الْبَائِعِ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ وَالْبَيْعُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَصِحُّ بِدُونِ الْقَبُولِ فَإِنْ قَبِلَهُ الْبَائِعُ لَمْ تَجُزْ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَالْبَيْعِ، وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، وَيَكُونُ إقَالَةً لِلْبَيْعِ فَرَّقَ بَيْنَ الْهِبَةِ مِنْ الْبَائِعِ، وَبَيْنَ الْبَيْعِ مِنْهُ حَيْثُ جَعَلَ الْهِبَةَ مِنْهُ إقَالَةً دُونَ الْبَيْعِ مِنْهُ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ: أَنَّ بَيْنَ الْهِبَةِ، وَالْإِقَالَةِ مُقَارَبَةً فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسْتَعْمَلُ فِي إلْحَاقِ مَا سَلَفَ بِالْعَدَمِ يُقَالُ: وَهَبْتُ مِنْك جَرِيمَتَك كَمَا يُقَالُ: أَقَلْتُ عَثْرَتَك، أَوْ جَعَلْت ذَلِكَ كَالْعَدَمِ فِي حَقِّ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ؟ فَأَمْكَنَ جَعْلُ الْهِبَةِ مَجَازًا عَنْ الْإِقَالَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا مُقَارَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِقَالَةِ؛ فَتَعَذَّرَ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنْهَا فَوَقَعَ لَغْوًا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
وَلَوْ وَهَبَ لِغَيْرِ الْبَائِعِ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى غَيْرِ الْبَائِعِ، وَأَمَرَ بِالْقَبْضِ مِنْ الْبَائِعِ، أَوْ رَهَنَهُ عِنْدَ آخَرَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَ مِنْ الْبَائِعِ فَقَبَضَهُ بِأَمْرِهِ، وَأَقْرَضَهُ، وَأَمَرَهُ بِالْقَبْضِ لَمْ تَجُزْ هَذِهِ الْعُقُودُ كُلُّهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ جَازَتْ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ: إنَّ صِحَّةَ هَذِهِ الْعُقُودِ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا أَمَرَهُ بِالْقَبْضِ فَقَدْ أَنَابَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الْقَبْضِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لَهُ، فَإِذَا قَبَضَ بِأَمْرِهِ يَصِيرُ قَابِضًا عَنْهُ أَوَّلًا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، ثُمَّ لِنَفْسِهِ فَيَصِحُّ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ جَوَازَ هَذِهِ الْعُقُودِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَالْيَدِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ بِهِ يَقَعُ الْأَمْنُ عَنْ غَرَرِ الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَغَرَرُ الِانْفِسَاخِ هاهنا ثَابِتٌ فَلَمْ يَكُنْ الْمِلْكُ مُطْلَقًا فَلَمْ يَجُزْ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ قَبْلَ الْقَبْضِ، ثُمَّ مَاتَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ صَارَ ذَلِكَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، كَذَا الْوَصِيَّةُ، وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: بِعْهُ لِي لَمْ يَكُنْ نَقْضًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ لِنَفْسِك كَانَ نَقْضًا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ مُطْلَقًا كَانَ نَقْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ نَقْضًا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ إطْلَاقَ الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ يَنْصَرِفُ إلَى الْبَيْعِ لِلْآمِرِ لَا لِلْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ لَا لِلْمَأْمُورِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: بِعْهُ لِي، وَلَوْ نَصَّ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ فَكَذَا هَذَا، وَلَهُمَا أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ يُحْمَلُ عَلَى بَيْعٍ صَحِيحٍ صَحَّ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْبَيْعِ لِلْآمِرِ لَمَا صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا بِبَيْعِ مَنْ لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَصِحُّ؛ فَيُحْمَلُ عَلَى الْبَيْعِ لِنَفْسِهِ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: بِعْهُ لِنَفْسِك، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ لِنَفْسِهِ إلَّا بَعْدَ انْفِسَاخِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَيَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِالْبَيْعِ لِنَفْسِهِ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَيَنْفَسِخُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ أَعْتِقْهُ فَأَعْتَقَهُ الْبَائِعُ فَإِعْتَاقُهُ جَائِزٌ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إعْتَاقُهُ بَاطِلٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْإِعْتَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْإِعْتَاقِ عَنْ الْآمِرِ لَا عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْآمِرِ، وَالْإِعْتَاقُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ، وَالْبَائِعُ لَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ الْمُشْتَرِي فِي الْقَبْضِ عَنْهُ، فَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْإِعْتَاقِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعْتَاقِ يُحْمَلُ عَلَى، وَجْهٍ يَصِحُّ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْإِعْتَاقِ عَنْ الْآمِرِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِمَا ذَكَرْتُمْ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِعْتَاقِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِذَا أَعْتَقَ يَقَعُ عَنْهُ.
(وَأَمَّا) بَيْعُ الْمُشْتَرِي الْعَقَارَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَجَائِزٌ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَزُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا، وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ النَّهْيِ الَّذِي رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْقَبْضِ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا قُدْرَةَ إلَّا بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ، وَفِيهِ غَرَرٌ، وَلَهُمَا عُمُومَاتُ الْبِيَاعَاتِ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا، أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى الْمَنْقُولِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي رُكْنِ الْبَيْعِ إذَا صَدَرَ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ هُوَ الصِّحَّةُ، وَالِامْتِنَاعُ لِعَارِضِ الْغَرَرِ، وَهُوَ غَرَرُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
وَلَا يُتَوَهَّمُ هَلَاكُ الْعَقَارِ فَلَا يَتَقَرَّرُ الْغَرَرُ فَبَقِيَ بَيْعُهُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشْتَرِي الْمَنْقُولَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأُجْرَةِ الْمَنْقُولَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا كَانَتْ عَيْنًا، وَبَدَلِ الصُّلْحِ الْمَنْقُولِ إذَا كَانَ عَيْنًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ فِيهِ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ كَالْمَبِيعِ، وَالْأُجْرَةِ، وَبَدَلِ الصُّلْحِ إذَا كَانَ مَنْقُولًا مُعَيَّنًا، وَكُلُّ عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِيهِ بِهَلَاكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ كَالْمَهْرِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَبَدَلِ الْعِتْقِ، وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَفِقْهُ هَذَا الْأَصْلِ مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الصِّحَّةُ فِي التَّصَرُّفِ الصَّادِرِ مِنْ الْأَهْلِ الْمُضَافِ إلَى الْمَحَلِّ، وَالْفَسَادُ بِعَارِضٍ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ، وَلَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَكَانَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ.
وَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْغَرَرِ لَا يَتَقَرَّرُ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْوَارِثَ خَلَفَ الْمَيِّتَ فِي مِلْكِ الْمَوْرُوثِ، وَخَلَفُ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ فَكَأَنَّ الْمُوَرِّثَ قَائِمٌ، وَلَوْ كَانَ قَائِمًا لَجَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ كَذَا الْوَارِثُ، وَكَذَلِكَ الْمُوصَى بِهِ بِأَنْ أَوْصَى إلَى إنْسَانٍ بِشَيْءٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَلِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمِيرَاثِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَا فِي الْمُوصَى بِهِ.
وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَقْسُومِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْقِسْمَةُ مِمَّا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الشُّرَكَاءُ إذَا طَلَبَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ جَازَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ سَوَاءٌ كَانَ مَنْقُولًا، أَوْ غَيْرَ مَنْقُولٍ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي مِثْلِهِ إفْرَازٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الشُّرَكَاءُ عِنْدَ طَلَبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَالْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالرَّقِيقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ إنْ كَانَ مَنْقُولًا، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فَتُشْبِهُ الْبَيْعَ، وَاَللَّهُ عَزَّ اسْمُهُ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) بَيْعُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَنَقُولُ،- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ-: الدُّيُونُ أَنْوَاعٌ:
(مِنْهَا) مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَمِنْهَا مَا يَجُوزُ أَمَّا الَّذِي لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَنَحْوُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ لِعُمُومِ النَّهْيِ؛ وَلِأَنَّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ، وَبِالْبَيْعِ يَفُوتُ الْقَبْضُ حَقِيقَةً، وَكَذَا الْمُسَلَّمُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ لَمْ يُقْبَضْ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: أَنْ يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ: أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ ارْتَفَعَ بِالْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّهَا فَسْخٌ، وَفَسْخُ الْعَقْدِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَجَعْلُهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ عَادَ رَأْسُ الْمَالِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلِاسْتِبْدَالِ كَمَا كَانَ قَبْلَ السَّلَمِ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: عُمُومُ النَّهْيِ الَّذِي رَوَيْنَا إلَّا مِنْ حَيْثُ خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَفِي الْبَابِ نَصٌّ خَاصٌّ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِرَبِّ السَّلَمِ «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَكَ، أَوْ رَأْسَ مَالِك»، وَفِي رِوَايَةٍ: «خُذْ سَلَمَك، أَوْ رَأْسَ مَالِك» نَهَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَبَّ السَّلَمِ عَنْ الْأَخْذِ عَامًّا، وَاسْتَثْنَى أَخْذَ السَّلَمِ، أَوْ رَأْسَ الْمَالِ فَبَقِيَ أَخْذُ مَا وَرَاءَهُمَا عَلَى أَصْلِ النَّهْيِ، وَكَذَا إذَا انْفَسَخَ السَّلَمُ بَعْدَ صِحَّتِهِ لِمَعْنًى عَارِضٍ نَحْوَ ذِمِّيٍّ أَسْلَمَ إلَى ذِمِّيٍّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي خَمْرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَبْضِ الْخَمْرِ حَتَّى بَطَلَ السَّلَمُ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ لِرَبِّ السَّلَمِ الِاسْتِبْدَالُ اسْتِحْسَانًا لِمَا رَوَيْنَا، وَلَوْ كَانَ السَّلَمُ فَاسِدًا مِنْ الْأَصْلِ وَوَجَبَ عَلَى الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ لِفَسَادِ السَّلَمِ يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ إذَا كَانَ فَاسِدًا فِي الْأَصْلِ لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ السَّلَمِ فَكَانَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدُّيُونِ مِنْ الْقَرْضِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَضَمَانِ الْغَصْبِ، وَالِاسْتِهْلَاكِ.
(وَأَمَّا) بَدَلُ الصَّرْفِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ حَالُ بَقَاءِ الْعَقْدِ، وَيَجُوزُ فِي الِانْتِهَاءِ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ، بِخِلَافِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْحَالَيْنِ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ: أَنَّ الْقِيَاسَ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فِي النَّاسِ جَمِيعًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ، وَفَسْخُ الْعَقْدِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَصْلِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ لَجَازَ الِاسْتِبْدَالُ فَكَذَا إذَا رُفِعَ، وَأُلْحِقَ بِالْعَدَمِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الِاسْتِبْدَالُ فِيهِمَا جَمِيعًا إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي بَابِ السَّلَمِ ثَبَتَتْ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ مَا رَوَيْنَا، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي السَّلَمِ فَبَقِيَ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فِي الصَّرْفِ عَلَى الْأَصْلِ، وَكَذَا الثِّيَابُ الْمَوْصُوفَةُ فِي الذِّمَّةِ الْمُؤَجَّلَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ لِلنَّهْيِ سَوَاءٌ كَانَ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ بِعَقْدِ السَّلَمِ، أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ كَمَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلَةٌ بِطَرِيقِ السَّلَمِ تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلَةً لَا بِطَرِيقِ السَّلَمِ بِأَنْ بَاعَ عَبْدًا بِثَوْبِ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَا يَكُونُ جَوَازُهُ بِطَرِيقِ السَّلَمِ بِدَلِيلٍ أَنَّ قَبْضَ الْعَبْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَبْضَ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ شَرْطُ جَوَازِ السَّلَمِ، وَكَذَا إذَا أَجَّرَ دَارِهِ بِثَوْبٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ جَازَتْ الْإِجَارَةُ، وَلَا يَكُونُ سَلَمًا، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى ثَوْبٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ جَازَ الصُّلْحُ، وَلَا يَكُونُ هَذَا سَلَمًا، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ بِالْمُسَلَّمِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثُبُوتُهُ بِعَقْدِ السَّلَمِ فَهَذِهِ جُمْلَةُ الدُّيُونِ الَّتِي لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَمَا سِوَاهَا مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَالْقَرْضِ، وَقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، وَالْمُسْتَهْلَكِ، وَنَحْوِهَا فَيَجُوزُ بَيْعُهَا مِمَّنْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ-: ثَمَنُ الْمَبِيعِ إذَا كَانَ عَيْنًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا لَا يَجُوزُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ يَقَعَانِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا فَكَانَ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَذَا النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ عَامٌّ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنِ وَأَمَّا عَلَى أَصْلِنَا فَالْمَبِيعُ، وَالثَّمَنُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ فِي الْأَصْلِ يَقَعَانِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فِي مَوْضِعِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ ثَمَنِ الْمَبِيعِ مِمَّنْ عَلَيْهِ صَارَ مَخْصُوصًا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
(وَأَمَّا) بَيْعُ هَذِهِ الدُّيُونِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ، وَالشِّرَاءُ بِهَا مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ فَيُنْظَرُ: إنْ أَضَافَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ إلَى الدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ بِأَنْ يَقُولَ لِغَيْرِهِ: بِعْت مِنْك الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ بِكَذَا، أَوْ يَقُولَ: اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الشَّيْءَ بِالدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ فِي حَقِّهِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ عَلَى مَا مَرَّ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّتِهِ مُسَلَّمٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُضِفْ الْعَقْدَ إلَى الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ جَازَ، وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنِ دَيْنٍ، وَلَمْ يُضِفْ الْعَقْدَ إلَى الدَّيْنِ حَتَّى جَازَ، ثُمَّ أَحَالَ الْبَائِعُ عَلَى غَرِيمِهِ بِدَيْنِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ جَازَتْ الْحَوَالَةُ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي أُحِيلَ بِهِ دَيْنًا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ لَا يَجُوزُ كَالسَّلَمِ وَنَحْوِهِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِدَيْنٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ بِقَبْضِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْمُحَالَ لَهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لِلْمُحِيلِ بِقَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ الْمُحْتَالِ لَهُ.
وَالتَّوْكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ جَائِزٌ أَيُّ دَيْنٍ كَانَ، وَيَكُونُ قَبْضُ وَكِيلِهِ كَقَبْضِ مُوَكِّلِهِ، وَلَوْ بَاعَ هَذَا الدَّيْنَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ جَازَ بِأَنْ اشْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ بِدَيْنِهِ الَّذِي لَهُ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَا هُوَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ فِي يَدِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا إذَا صَالَحَ مَعَهُ مِنْ دَيْنِهِ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ جَازَ الصُّلْحُ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ مَنْطُوقًا بِهِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْمُبَادَلَةِ، وَهِيَ الْمُبَادَلَةُ الْقَوْلِيَّةُ فَإِنْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ بِأَنْ قَالَ: بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْت لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَيْعَ فِي اللُّغَةِ: مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ، وَفِي الشَّرْعِ: مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْبَدَلُ مَنْطُوقًا بِهِ، وَلَا بِيعَ بِدُونِ الْبَدَلِ إذْ هُوَ مُبَادَلَةٌ كَانَ بَدَلُهُ قِيمَتَهُ فَكَانَ هَذَا بَيْعُ الْعَبْدِ بِقِيمَتِهِ، وَأَنَّهُ فَاسِدٌ، وَهَكَذَا السَّبِيلُ فِي الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهَا تَكُونُ بَيْعًا بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ، هَذَا إذَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ فَأَمَّا إذَا مَا نَفَاهُ صَرِيحًا بِأَنْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، أَوْ بِلَا ثَمَنٍ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْت اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا وَالسُّكُوتُ عَنْ الثَّمَنِ سَوَاءٌ، وَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِ الْأَوَّلِينَ: أَنَّ قَوْلَهُ بِلَا ثَمَنٍ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُبَادَلَةٍ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرًا لِلْبَدَلِ، فَإِذَا قَالَ بِغَيْرِ ثَمَنٍ فَقَدْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ فَبَطَلَ قَوْلُهُ بِلَا ثَمَنٍ، وَبَقِيَ قَوْلُهُ بِعْت مَسْكُوتًا عَنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ فَكَأَنَّهُ بَاعَ وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ الْآخَرِينَ: أَنَّ عِنْدَ السُّكُوتِ عَنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ يَصِيرُ الْبَدَلُ مَذْكُورًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، فَإِذَا نَصَّ عَلَى نَفْيِ الثَّمَنِ بَطَلَتْ الدَّلَالَةُ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعًا أَصْلًا، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) الْخُلُوُّ عَنْ الرِّبَا، وَإِنْ شِئْت قُلْت: وَمِنْهَا الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا حَتَّى لَوْ انْتَفَتْ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ رِبًا، وَالْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ رِبًا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الرِّبَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلَّ:- {وَحَرَّمَ الرِّبَا}.
وَالْكَلَامُ فِي مَسَائِلِ الرِّبَا فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا فِي بَيَانِ الرِّبَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ أَنَّهُ مَا هُوَ؟، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ عِلَّتِهِ أَنَّهَا مَا هِيَ؟، وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ شَرْطِ جَرَيَانِ الرِّبَا.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالرِّبَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ نَوْعَانِ: رِبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسَاءِ.
(أَمَّا) رِبَا الْفَضْلِ فَهُوَ: زِيَادَةُ عَيْنِ مَالٍ شُرِطَتْ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ الْكَيْلُ، أَوْ الْوَزْنُ فِي الْجِنْسِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ: زِيَادَةٌ مُطْلَقَةٌ فِي الْمَطْعُومِ خَاصَّةً عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ خَاصَّةً.
(وَأَمَّا) رِبَا النَّسَاءِ فَهُوَ فَضْلُ الْحُلُولِ عَلَى الْأَجَلِ، وَفَضْلُ الْعَيْنِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْمَكِيلَيْنِ، أَوْ الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْمَكِيلَيْنِ، أَوْ الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ فَضْلُ الْحُلُولِ عَلَى الْأَجَلِ فِي الْمَطْعُومَاتِ، وَالْأَثْمَانِ خَاصَّةً، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الثَّانِي، وَهُوَ بَيَانُ الْعِلَّةِ فَنَقُولُ: الْأَصْلُ الْمَعْلُولُ فِي هَذَا الْبَابِ بِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا» أَيْ: بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ.
وَرُوِيَ مِثْلٌ بِمِثْلٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ جَائِزٌ فَهَذَا النَّصُّ مَعْلُولٌ بِاتِّفَاقِ الْقَائِسِينَ غَيْرَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: عِلَّةُ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ، وَفِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ الْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْعِلَّةُ إلَّا بِاجْتِمَاعِ الْوَصْفَيْنِ، وَهُمَا الْقَدْرُ، وَالْجِنْسُ، وَعِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ هِيَ أَحَدُ، وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ إمَّا الْكَيْلُ، أَوْ الْوَزْنُ الْمُتَّفِقُ، أَوْ الْجِنْسُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عِلَّةُ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الطُّعْمُ، وَفِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ الثَّمَنِيَّةَ فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ هُمَا غَيْرُ مَعْلُولَيْنِ، وَعِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ مَا هُوَ عِلَّةُ رِبَا الْفَضْلِ، وَهِيَ الطُّعْمُ فِي الْمَطْعُومَاتِ، وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ دُونَ الْجِنْسِ إذْ الْأَصْلُ عِنْدَهُ حُرْمَةُ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ.
(وَأَمَّا) التَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ مَعَ الْيَدِ مُخَلَّصٌ مِنْ الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» هَذَا الْأَصْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ حُرْمَةُ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ، وَإِنَّمَا الْجَوَازُ بِعَارِضِ التَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مُطْلَقًا، وَاسْتَثْنَى حَالَةَ الْمُسَاوَاةِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِالْمَطْعُومِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى جَعْلِ الطَّعْمِ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْحُكْمَ عَقِيبَ اسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنًى، وَالْأَصْلُ: أَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ عَقِيبَ اسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنًى يَصِيرُ مَوْضِعُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ وَعَلَا: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، وَقَوْلِهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَالطَّعَامُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الطُّعْمِ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الطُّعْمِ عِلَّةً، وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ اسْمٌ لِوَصْفٍ مُؤَثِّرٍ فِي الْحُكْمِ، وَوَصْفُ الطُّعْمِ مُؤَثِّرٌ فِي حُرْمَةِ بَيْعِ الْمَطْعُومِ، وَالْحُكْمُ مَتَى ثَبَتَ عَقِيبَ وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ يُحَالُّ إلَيْهِ كَمَا فِي الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبَيَانُ تَأْثِيرِ الطُّعْمِ أَنَّهُ وَصْفٌ يُنْبِئُ عَنْ الْعِزَّةِ، وَالشَّرَفِ؛ لِكَوْنِهِ مُتَعَلِّقَ الْبَقَاءِ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِعِزَّتِهِ وَشَرَفِهِ، فَيَجِبُ إظْهَارُ عِزَّتِهِ وَشَرَفِهِ، وَذَلِكَ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ، وَتَعْلِيقِ جَوَازِهِ بِشَرْطَيْ التَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ، وَالْيَدِ؛ لِأَنَّ فِي تَعَلُّقِهِ بِشَرْطَيْنِ تَضْيِيقَ طَرِيقِ إصَابَتِهِ، وَمَا ضَاقَ طَرِيقُ إصَابَتِهِ يَعِزُّ وُجُودُهُ فَيَعِزُّ إمْسَاكُهُ، وَلَا يَهُونُ فِي عَيْنِ صَاحِبِهِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ هُوَ الْحَظْرُ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي الْأَبْضَاعِ الْحُرْمَةَ، وَالْحَظْرَ، وَالْجَوَازَ بِشَرْطَيْ الشَّهَادَةِ، وَالْوَلِيِّ إظْهَارًا لِشَرَفِهَا لِكَوْنِهَا مَنْشَأَ الْبَشَرِ الَّذِينَ هُمْ الْمَقْصُودُونَ فِي الْعَالَمِ، وَبِهِمْ قِوَامُهَا، وَالْأَبْضَاعُ وَسِيلَةٌ إلَى وُجُودِ الْجِنْسِ، وَالْقُوتُ وَسِيلَةٌ إلَى بَقَاءِ الْجِنْسِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهَا الْحَظْرَ، وَالْجَوَازَ بِشَرْطَيْنِ لِيَعِزَّ وُجُودُهُ، وَلَا تَتَيَسَّرُ إصَابَتُهُ فَلَا يَهُونُ إمْسَاكُهُ فَكَذَا هَذَا، وَكَذَا الْأَصْلُ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِجِنْسِهِمَا هُوَ الْحُرْمَةُ؛ لِكَوْنِهِمَا أَثْمَانَ الْأَشْيَاءِ فِيهَا وَعَلَيْهَا، فَكَانَ قِوَامَ الْأَمْوَالِ، وَالْحَيَاةِ بِهَا فَيَجِبُ إظْهَارُ شَرَفِهَا فِي الشَّرْعِ بِمَا قُلْنَا.
(وَلَنَا) فِي إثْبَاتِ الْأَصْلِ إشَارَاتُ النُّصُوصِ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالسُّنَّةِ، وَالِاسْتِدْلَالِ.
(أَمَّا) الْكِتَابُ فَقَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} جَعَلَ حُرْمَةَ الرِّبَا بِالْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الطُّعْمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْكَيْلُ، وَالْوَزْنُ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} أَلْحَقَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِالتَّطْفِيفِ فِي الْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَطْعُومِ وَغَيْرِهِ.
(وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ «عَامِلَ خَيْبَرَ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْرًا جَنِيبًا فَقَالَ: أَوَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَعْطَيْتُ صَاعَيْنِ، وَأَخَذْتُ صَاعًا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَرْبَيْت هَلَّا بِعْتَ تَمْرَكَ بِسِلْعَةٍ، ثُمَّ ابْتَعْتَ بِسِلْعَتِك تَمْرًا»؟ وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ وَأَرَادَ بِهِ الْمَوْزُونَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِمُجَاوِرَةٍ بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَطْعُومِ، وَغَيْرِ الْمَطْعُومِ، وَكَذَا رَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيُّ بِإِسْنَادِهِمَا الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ الَّذِي رَوَاهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ «وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ».
(وَأَمَّا) الِاسْتِدْلَال فَهُوَ: أَنَّ الْفَضْلَ عَلَى الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ مِنْ الْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ فِي الْجِنْسِ إنَّمَا كَانَ رِبًا فِي الْمَطْعُومَاتِ، وَالْأَثْمَانِ مِنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا لِكَوْنِهِ فَضْلَ مَالٍ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي الْجَصِّ، وَالْحَدِيدِ، وَنَحْوِهِمَا فَوُرُودُ الشَّرْعِ ثَمَّةَ يَكُونُ وُرُودًا هُنَا دَلَالَةً، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ لُغَةً، وَشَرْعًا مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَهَذَا يَقْتَضِي التَّسَاوِي فِي الْبَدَلَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْلُو كُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَلِ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ عَنْ الْبَدَلِ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْمُبَادَلَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْأَبُ، وَالْوَصِيُّ بَيْعَ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمَرِيضِ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ، وَالْقَفِيزُ مِنْ الْحِنْطَةِ مِثْلُ الْقَفِيزِ مِنْ الْحِنْطَةِ صُورَةً، وَمَعْنًى، وَكَذَلِكَ الدِّينَارُ مَعَ الدِّينَارِ.
(أَمَّا) الصُّورَةُ فَلِأَنَّهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي الْقَدْرِ، وَأَمَّا مَعْنًى فَإِنَّ الْمُجَانَسَةَ فِي الْأَمْوَالِ عِبَارَةٌ عَنْ تَقَارُبِ الْمَالِيَّةِ فَكَانَ الْقَفِيزُ مِثْلًا لِلْقَفِيزِ، وَالدِّينَارُ مِثْلًا لِلدِّينَارِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ قَفِيزًا مِنْ حِنْطَةٍ يَلْزَمُهُ قَفِيزٌ مِثْلُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَإِذَا كَانَ الْقَفِيزُ مِنْ الْحِنْطَةِ مِثْلًا لِلْقَفِيزِ مِنْ الْحِنْطَةِ كَانَ الْقَفِيزُ الزَّائِدُ فَضْلَ مَالٍ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَكَانَ رِبًا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخُصُّ الْمَطْعُومَاتِ، وَالْأَثْمَانَ بَلْ يُوجَدُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ بِجِنْسِهِ، وَمَوْزُونٍ بِمِثْلِهِ فَالشَّرْعُ الْوَارِدُ هُنَاكَ يَكُونُ، وَارِدًا هاهنا دَلَالَةً.
(وَأَمَّا) قَوْلُهُ: الْأَصْلُ حُرْمَةُ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ فَمَمْنُوعٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا اقْتَصَرَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ لِيُجْعَلَ الْحَظْرَ فِيهِ أَصْلًا، بَلْ قَرَنَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْحُرْمَةِ فِيهِ أَصْلًا، وَقَوْلُهُ: جَعْلُ الطُّعْمِ عِلَّةً دَعْوَى مَمْنُوعَةٌ أَيْضًا، وَالِاسْمُ الْمُشْتَقُّ مِنْ مَعْنًى إنَّمَا يُجْعَلُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ عَقِيبَهُ عِنْدَنَا إذَا كَانَ لَهُ أَثَرٌ كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَنَحْوِهِمَا فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ لِلطُّعْمِ أَثَرًا؟ وَكَوْنُهُ مُتَعَلِّقَ الْبَقَاءِ لَا يَكُونُ أَثَرُهُ فِي الْإِطْلَاقِ أَوْلَى مِنْ الْحَظْرِ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ التَّوْسِيعُ دُونَ التَّضْيِيقِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُبْنَى مَسَائِلُ الرِّبَا نَقْدًا، وَنَسِيئَةً، وَفُرُوعُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ أَمَّا رِبَا النَّقْدِ فَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيهِ تَظْهَرُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيْعِ مَكِيلٍ بِجِنْسِهِ غَيْرَ مَطْعُومٍ، أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ غَيْرَ مَطْعُومٍ، وَلَا ثَمَنٍ كَبَيْعِ قَفِيزِ جَصٍّ بِقَفِيزَيْ جَصٍّ، وَبَيْعِ مَنِّ حَدِيدٍ بِمَنَوَيْ حَدِيدٍ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ رِبًا لِوُجُودِ عِلَّةِ الرِّبَا، وَهُوَ الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ، أَوْ الْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الطَّعْمُ، أَوْ الثَّمَنِيَّةَ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيْعُ كُلِّ مُقَدَّرٍ بِجِنْسِهِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ غَيْرَ الْمَطْعُومَاتِ، وَالْأَثْمَانِ: كَالنُّورَةِ، وَالزِّرْنِيخِ، وَالصُّفْرِ، وَالنُّحَاسِ، وَنَحْوِهَا.
(وَأَمَّا) بَيْعُ الْمَكِيلِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، وَبَيْعُ الْمَوْزُونِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَبَيْعِ قَفِيزِ أُرْزٍ بِقَفِيزَيْ أُرْزٍ، وَبَيْعِ مَنِّ سُكَّرٍ بِمَنَوَيْ سُكَّرٍ فَلَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِوُجُودِ الْقَدْرِ، وَالْجِنْسِ، وَعِنْدَهُ لِوُجُودِ الطَّعْمِ، وَالْجِنْسِ، وَكَذَا كُلُّ مَوْزُونٍ هُوَ مَأْكُولٌ، أَوْ مَشْرُوبٌ كَالدُّهْنِ، وَالزَّيْتِ، وَالْخَلِّ، وَنَحْوِهَا.
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَكِيلِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا مَطْعُومًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ كَبَيْعِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ بِقَفِيزَيْ شَعِيرٍ، وَبَيْعِ قَفِيزِ جَصٍّ بِقَفِيزَيْ نُورَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْفَضْلُ مَجْمُوعُ الْوَصْفَيْنِ، وَقَدْ انْعَدَمَ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْجِنْسُ، وَكَذَا بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا جَائِزٌ ثَمَنَيْنِ كَانَا، أَوْ مُثَمَّنَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ كَبَيْعِ دِينَارٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبَيْعِ مَنِّ حَدِيدٍ بِمَنَوَيْ نُحَاسٍ، أَوْ رَصَاصٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا.
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَذْرُوعَاتِ، وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ، وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ يَدًا بِيَدٍ كَبَيْعِ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ، وَعَبْدٍ بِعَبْدَيْنِ، وَشَاةٍ بِشَاتَيْنِ، وَنَصْلٍ بِنَصْلَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِانْعِدَامِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ، وَهُوَ الْكَيْلُ، وَالْوَزْنُ، وَعِنْدَهُ لِانْعِدَامِ الطُّعْمِ، وَالثَّمَنِيَّةِ.
(وَأَمَّا) بَيْعُ الْأَوَانِي الصُّفْرِيَّةِ وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ كَبَيْعِ قُمْقُمَةٍ بِقُمْقُمَتَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُبَاعُ عَدَدًا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعَدَّ فِي الْعَدَدِيَّاتِ لَيْسَ مِنْ أَوْصَافِ عِلَّةِ الرِّبَا فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُبَاعُ، وَزْنًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً.
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ مِنْ غَيْرِ الْمَطْعُومَاتِ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ كَبَيْعِ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: إنَّ الْفُلُوسَ أَثْمَانٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا كَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ عِبَارَةٌ عَمَّا تُقَدَّرُ بِهِ مَالِيَّةُ الْأَعْيَانِ، وَمَالِيَّةُ الْأَعْيَانِ كَمَا تُقَدَّرُ بِالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ تُقَدَّرُ بِالْفُلُوسِ فَكَانَتْ أَثْمَانًا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أَثْمَانًا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا، وَعِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا حَالَةَ الْمُسَاوَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا فَالثَّمَنُ لَا يَتَعَيَّنُ، وَإِنْ عُيِّنَ كَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ فَالْتَحَقَ التَّعَيُّنُ فِيهِمَا بِالْعَدَمِ فَكَانَ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا، وَذَا لَا يَجُوزُ؛ وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ أَثْمَانًا فَالْوَاحِدُ يُقَابِلُ الْوَاحِدَ فَبَقِيَ الْآخَرُ فَضْلَ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا.
(وَلَهُمَا) أَنَّ عِلَّةَ رِبَا الْفَضْلِ هِيَ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْكَيْلُ، أَوْ الْوَزْنُ الْمُتَّفِقُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَالْمُجَانَسَةِ إنْ وُجِدَتْ هاهنا فَلَمْ يُوجَدْ الْقَدْرُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَقَوْلُهُ: الْفُلُوسُ أَثْمَانٌ قُلْنَا: ثَمَنِيَّتُهَا قَدْ بَطَلَتْ فِي حَقِّهِمَا قَبْلَ الْبَيْعِ، فَالْبَيْعُ صَادَفَهَا، وَهِيَ سِلَعٌ عَدَدِيَّةٌ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ كَسَائِرِ السِّلَعِ الْعَدَدِيَّةِ كَالْقَمَاقِمِ الْعَدَدِيَّةِ، وَغَيْرِهَا إلَّا أَنَّهَا بَقِيَتْ أَثْمَانًا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا، وَبِجِنْسِهَا حَالَةَ الْمُسَاوَاةِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا عَنْ، وَصْفِ الثَّمَنِيَّةِ كَانَ لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَجَوَازِهِ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا الصِّحَّةَ، وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِمَا قُلْنَا، وَلَا ضَرُورَةَ ثَمَّةَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ فِي الْحَالَيْنِ بَقِيَتْ عَلَى صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ، أَوْ خَرَجَتْ عَنْهَا.
وَالثَّانِي فِي بَيْعِ مَطْعُومٍ بِجِنْسِهِ لَيْسَ بِمَكِيلٍ، وَلَا مَوْزُونٍ كَبَيْعِ حَفْنَةِ حِنْطَةٍ بِحَفْنَتَيْنِ مِنْهَا، أَوْ بِطِّيخَةٍ بِبِطِّيخَتَيْنِ، أَوْ تُفَّاحَةٍ بِتُفَّاحَتَيْنِ، أَوْ بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ، أَوْ جَوْزَةٍ بِجَوْزَتَيْنِ يَجُوزُ عِنْدَنَا؛ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ وَبَقِيَ الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ، أَوْ الْوَزْنِ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِوُجُودِ الطَّعْمِ، وَالْجِنْسِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ حَفْنَةً بِحَفْنَةٍ، أَوْ تُفَّاحَةً بِتُفَّاحَةٍ، أَوْ بَيْضَةً بِبَيْضَةٍ يَجُوزُ عِنْدَنَا؛ لِمَا قُلْنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِوُجُودِ الطَّعْمِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ هُوَ الْعَزِيمَةُ عِنْدَهُ، وَالتَّسَاوِي فِي الْكَيْلِ، أَوْ الْوَزْنِ مُخَلِّصٌ عَنْ الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْمُخَلِّصُ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ.
(وَأَمَّا) رِبَا النَّسَاءِ، وَفُرُوعُهُ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ فَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: أَسْلِمْ مَا يُكَالُ فِيمَا يُوزَنُ، وَأَسْلِمْ مَا يُوزَنُ فِيمَا يُكَالُ، وَلَا تُسْلِمْ مَا يُكَالُ فِيمَا يُكَالُ، وَلَا مَا يُوزَنُ فِيمَا يُوزَنُ، وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ مِمَّا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ فَلَا بَأْسَ بِهِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً، ولابد مِنْ شَرْحِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيلِ مَا يَحْتَاجُ مِنْهَا إلَى التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَجْرَى الْقَضِيَّةَ فِيهَا عَامَّةً، وَمِنْهَا مَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، وَمِنْهَا مَا لَا يَحْتَمِلُ فلابد مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ-: لَا يَجُوزُ إسْلَامُ الْمَكِيلَاتِ فِي الْمَكِيلَاتِ عَلَى الْعُمُومِ، سَوَاءٌ كَانَا مَطْعُومَيْنِ كَالْحِنْطَةِ فِي الْحِنْطَةِ، أَوْ فِي الشَّعِيرِ، أَوْ غَيْرَ مَطْعُومَيْنِ كَالْجَصِّ فِي الْجَصِّ، أَوْ فِي النُّورَةِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ حَالًّا لَا سَلَمًا، لَكِنْ دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ مَطْعُومَيْنِ كَانَا، أَوْ غَيْرَ مَطْعُومَيْنِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ جَمَعَهُمَا، وَهُوَ الْكَيْلُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَا مَطْعُومَيْنِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مَطْعُومَيْنِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَهُ الطَّعْمُ.
(وَأَمَّا) إسْلَامُ الْمَوْزُونَاتِ فِي الْمَوْزُونَاتِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ إنْ كَانَا جَمِيعًا مِمَّا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَا مَطْعُومَيْنِ كَالسُّكَّرِ فِي الزَّعْفَرَانِ، أَوْ غَيْرَ مَطْعُومَيْنِ كَالْحَدِيدِ فِي النُّحَاسِ لِوُجُودِ أَحَدِ، وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِرِبَا النَّسَاءِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمَطْعُومِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْمَطْعُومِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَا مِمَّا لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْعَقْدِ كَالدَّرَاهِمِ فِي الدَّنَانِيرِ، وَالدَّنَانِيرِ فِي الدَّرَاهِمِ، أَوْ الدَّرَاهِمِ فِي الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ فِي الدَّنَانِيرِ، أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ الْمُسَلَّمُ فِيهِ كَالْحَدِيدِ فِي الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ مَبِيعٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّلَمُ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَعْضِ مَا دَخَلَ تَحْتَ النَّهْيِ.
وَالدَّاخِلُ تَحْتَ النَّهْيِ هُوَ الْبَيْعُ دَلَّ أَنَّ السَّلَمَ نَوْعُ بَيْعٍ لِيَسْتَقِيمَ إثْبَاتُ الرُّخْصَةِ فِيهِ فَكَانَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ مَبِيعًا، وَالْمَبِيعُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ لَا يَحْتَمِلَانِ التَّعْيِينَ شَرْعًا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَلَمْ يَكُونَا مُتَعَيِّنَيْنِ فَلَا يَصْلُحَانِ مُسَلَّمًا فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ، وَالْمُسَلَّمُ فِيهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الدَّرَاهِمَ، أَوْ الدَّنَانِيرَ فِي الزَّعْفَرَانِ، أَوْ فِي الْقُطْنِ، أَوْ الْحَدِيدِ، وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ، وَهِيَ الْقَدْرُ الْمُتَّفِقُ، أَوْ الْجِنْسُ.
أَمَّا الْمُجَانَسَةُ فَظَاهِرَةُ الِانْتِفَاءِ.
وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمُتَّفِقُ؛ فَلِأَنَّ وَزْنَ الثَّمَنِ يُخَالِفُ وَزْنَ الْمُثَمَّنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ تُوزَنُ بِالْمَثَاقِيلِ؟، وَالْقُطْنَ، وَالْحَدِيدَ يُوزَنَانِ بِالْقَبَّانِ فَلَمْ يَتَّفِقْ الْقَدْرُ فَلَمْ تُوجَدْ الْعِلَّةُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا هَذَا إذَا أَسْلَمَ الدَّرَاهِمَ، أَوْ الدَّنَانِيرَ فِي سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ، فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ نَقْرَةَ فِضَّةٍ، أَوْ تِبْرَ ذَهَبٍ، أَوْ الْمَصُوغَ فِيهَا فَهَلْ يَجُوزُ؟ ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَزُفَرَ؟ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَجُوزُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّهُ وُجِدَ عِلَّةً رِبَا النَّسَاءِ وَهِيَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ، وَهُوَ الْوَزْنُ فِي الْمَالَيْنِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْقَدْرِ الْمُتَّفِقِ لَا مُطْلَقَ الْقَدْرِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ النَّقْرَةَ، أَوْ التِّبْرَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، وَأَصْلِ الْأَثْمَانِ، وَوَزْنُ الثَّمَنِ يُخَالِفُ وَزْنَ الْمُثَمَّنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَلَمْ يَتَّفِقْ الْقَدْرُ فَلَمْ تُوجَدْ الْعِلَّةُ؛ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا كَمَا إذَا أَسْلَمَ فِيهَا الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِيهَا الْفُلُوسَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْفَلْسَ عَدَدِيٌّ، وَالْعَدَدُ فِي الْعَدَدِيَّاتِ لَيْسَ مِنْ، أَوْصَافِ الْعِلَّةِ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِيهَا الْأَوَانِيَ الصُّفْرِيَّةَ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ تُبَاعُ وَزْنًا لَمْ يَجُزْ؛ لِوُجُودِ الْوَزْنِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ، وَإِنْ كَانَتْ تُبَاعُ عَدَدِيَّةً جَازَ؛ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ.
وَأَمَّا إسْلَامُ الْمَكِيلَاتِ فِي الْمَوْزُونَاتِ فَهُوَ أَيْضًا عَلَى التَّفْصِيلِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْزُونُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَا مَطْعُومَيْنِ كَالْحِنْطَةِ فِي الزَّيْتِ، أَوْ الزَّعْفَرَانِ، أَوْ غَيْرَ مَطْعُومَيْنِ كَالْجَصِّ فِي الْحَدِيدِ عِنْدَنَا؛ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ فِي الْمَطْعُومَيْنِ؛ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَهُوَ الدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ لَا يَجُوزُ؛ لِمَا مَرَّ أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ مَبِيعًا، وَالدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ أَثْمَانٌ أَبَدًا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَجُزْ هَذَا الْعَقْدُ سَلَمًا هَلْ يَجُوزُ بَيْعًا يُنْظَرُ إنْ كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ يَجُوزُ وَيَكُونُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ سَلَمًا بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَيُجْعَلُ بَيْعًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ السَّلَمِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ يُخَالِفُ مُطْلَقَ الْبَيْعِ فِي الْأَحْكَامِ، وَالشَّرَائِطِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ سَلَمًا بَطَلَ رَأْسًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ نَوْعُ بَيْعٍ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَمَّاهُ بَيْعًا حِينَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ»، وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، إلَّا أَنَّهُ أَخْتَصَّ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ فَإِذَا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بَيْعًا هُوَ سَلَمٌ يُصَحَّحُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ تَصْحِيحًا لِلتَّصَرُّفِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ.
وَأَمَّا إسْلَامُ الْمَوْزُونَاتِ فِي الْمَكِيلَاتِ فَجَائِزٌ عَلَى الْعُمُومِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْزُونُ الَّذِي جَعَلَهُ رَأْسَ الْمَالِ عَرَضًا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، أَوْ ثَمَنًا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَهُوَ الدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْهَا أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُتَّفِقُ، أَوْ الْجِنْسُ فَلَمْ تُوجَدْ الْعِلَّةُ، وَلَوْ أَسْلَمَ جِنْسًا فِي جِنْسِهِ، وَغَيْرِ جِنْسِهِ كَمَا إذَا أَسْلَمَ مَكِيلًا فِي مَكِيلٍ، وَمَوْزُونٍ لَمْ يَجُزْ السَّلَمُ فِي جَمِيعِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ فِي حِصَّةِ خِلَافِ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْمَوْزُونُ، وَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
(وَأَمَّا) إسْلَامُ غَيْرِ الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ فِي جِنْسِهِ مِنْ الذَّرْعِيَّاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ كَالْهَرَوِيِّ فِي الْهَرَوِيِّ، وَالْمَرْوِيِّ فِي الْمَرْوِيِّ، وَالْحَيَوَانِ فِي الْحَيَوَانِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ وَلَقَبُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يُحَرِّمُ.
فَلَا يَجُوزُ إسْلَامُ الْجَوْزِ فِي الْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ فِي الْبِيضِ، وَالتُّفَّاحِ فِي التُّفَّاحِ، وَالْحَفْنَةِ فِي الْحَفْنَةِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِوُجُودِ الْجِنْسِ عِنْدَنَا، وَلِوُجُودِ الطَّعْمِ عِنْدَهُ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إسْلَامُ الْهَرَوِيِّ فِي الْمَرْوِيِّ؛ لِانْعِدَامِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ؛ لِانْعِدَامِ الطَّعْمِ، وَالثَّمَنِيَّةِ.
وَيَجُوزُ إسْلَامُ الْجَوْزِ فِي الْبَيْضِ، وَالتُّفَّاحِ فِي السَّفَرْجَلِ، وَالْحَيَوَانِ فِي الثَّوْبِ عِنْدَنَا؛ لِمَا قُلْنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ فِي الْمَطْعُومِ؛ لِوُجُودِ الطَّعْمِ.
وَلَوْ أَسْلَمَ الْفُلُوسَ فِي الْفُلُوسِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا؛ لِوُجُودِ الْجِنْسِ، وَعِنْدَهُ؛ لِوُجُودِ الثَّمَنِيَّةِ.
وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ الْأَوَانِيَ الصُّفْرِيَّةَ فِي جِنْسِهَا، وَهِيَ تُبَاعُ عَدَدًا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا؛ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ، وَعِنْدَهُ لِوُجُودِ الثَّمَنِيَّةِ، وَالْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ الْجِنْسِ بِانْفِرَادِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا، وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ، وَحُرْمَةَ بَيْعِ الْأَثْمَانِ بِجِنْسِهَا هِيَ الْأَصْلُ، وَالتَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ مَعَ الْيَدِ مُخَلِّصٌ عَنْ الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، أَوْ رِبَا النَّسَاءِ عِنْدَهُ، وَهُوَ فَضْلُ الْحُلُولِ عَلَى الْأَجَلِ فِي الْمَطْعُومَاتِ، وَالثَّمَنِيَّةِ فِي الْأَثْمَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا لَهُ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْأَصْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالْكَلَامُ لِأَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ.
وَهُوَ أَنَّ السَّلَمَ فِي الْمَطْعُومَاتِ، وَالْأَثْمَانِ إنَّمَا كَانَ رِبًا؛ لِكَوْنِهِ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُبَادَلَةٍ عَلَى طَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ، وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْبَدَلَيْنِ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَا نَقْدَيْنِ يَجُوزُ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ النَّقْدِ، وَالنَّسِيئَةِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ خَيْرٌ مِنْ الدَّيْنِ، وَالْمُعَجَّلَ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْ الْمُؤَجَّلِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ فَضْلٍ مَشْرُوطٍ فِي الْبَيْعِ رِبًا سَوَاءٌ كَانَ الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْأَوْصَافُ إلَّا مَالًا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَفَضْلُ التَّعْيِينِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِأَنْ يَبِيعَ عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَحَالًّا غَيْرَ مُؤَجَّلٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْمَطْعُومِ وَالْأَثْمَانِ، فَوُرُودُ الشَّرْعِ ثَمَّةَ يَكُونُ وُرُودًا هاهنا دَلَالَةً، وَابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ لَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ».
وَرُوِيَ: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» حَقَّقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَطْعُومِ، وَالْأَثْمَانِ، وَغَيْرِهَا فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِتَحْقِيقِ الرِّبَا فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْعُمُومِ إلَّا مَا خُصَّ، أَوْ قُيِّدَ بِدَلِيلٍ، وَالرِّبَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ.
وَإِذَا كَانَ الْجِنْسُ أَحَدَ، وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ، وَعِلَّةِ رِبَا النَّسِيئَةِ عِنْدَنَا، وَشَرْطُ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ عِنْدَهُ فلابد مِنْ مَعْرِفَةِ الْجِنْسِ مِنْ كُلِّ مَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ-: الْحِنْطَةُ كُلُّهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَأَوْصَافِهَا، وَبُلْدَانِهَا أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ، وَكَذَلِكَ دَقِيقُهُمَا، وَكَذَا سَوِيقُهُمَا، وَكَذَلِكَ التَّمْرُ، وَكَذَلِكَ الْمِلْحُ، وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ، وَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ، وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ مَكِيلٍ مِنْ ذَلِكَ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا فِي الْكَيْلِ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي النَّوْعِ، وَالصِّفَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا مُتَسَاوِيًا فِي الْكَيْلِ مُتَفَاضِلًا فِي النَّوْعِ وَالصِّفَةِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ السَّقِيَّةُ بِالسَّقِيَّةِ وَالنَّحْسِيَّةُ بِالنَّحْسِيَّةِ، وَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَالْجَيِّدَةُ بِالْجَيِّدَةِ، وَالرَّدِيئَةُ بِالرَّدِيئَةِ وَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَالْجَدِيدَةُ بِالْجَدِيدَةِ، وَالْعَتِيقَةُ بِالْعَتِيقَةِ وَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَالْمَقْلُوَّةُ بِالْمَقْلُوَّةِ.
وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ عَلَى هَذَا، وَكَذَلِكَ دَقِيقُ الْحِنْطَةِ، وَدَقِيقُ الشَّعِيرِ فَيَجُوزُ بَيْعُ دَقِيقِ الْحِنْطَةِ بِدَقِيقِ الْحِنْطَةِ، وَسَوِيقِ الْحِنْطَةِ بِسَوِيقِ الْحِنْطَةِ، وَكَذَا دَقِيقُ الشَّعِيرِ، وَسَوِيقُهُ، وَكَذَا التَّمْرُ بِالتَّمْرِ الْبَرْنِيُّ بِالْمَعْقِلِيِّ، وَالْجَيِّدُ بِالرَّدِيءِ، وَالْجَدِيدُ بِالْجَدِيدِ، وَالْعَتِيقِ بِالْعَتِيقِ، وَأَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ بِالْعِنَبِ، وَالزَّبِيبُ الْيَابِسُ بِالزَّبِيبِ الْيَابِسِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ حِنْطَةٍ مَقْلِيَّةٍ بِحِنْطَةٍ غَيْرِ مَقْلِيَّةٍ، وَالْمَطْبُوخَةِ بِغَيْرِ مَطْبُوخَةٍ.
وَبَيْعُ الْحِنْطَةِ بِدَقِيقِ الْحِنْطَةِ، وَبِسَوِيقِ الْحِنْطَةِ، وَبَيْعُ تَمْرٍ مَطْبُوخٍ بِتَمْرٍ غَيْرِ مَطْبُوخٍ مُتَفَاضِلًا فِي الْكَيْلِ، أَوْ مُتَسَاوِيًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْلِيَّةَ يَنْضَمُّ بَعْضُ أَجْزَائِهَا إلَى بَعْضٍ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ؛ فَيَتَحَقَّقُ الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ فِي الْكَيْلِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَكَذَا الْمَطْبُوخَةُ بِغَيْرِ الْمَطْبُوخَةِ؛ لِأَنَّ الْمَطْبُوخَ يَنْتَفِخُ بِالطَّبْخِ فَكَانَ غَيْرُ الْمَطْبُوخَةِ أَكْثَرَ قَدْرًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَتَحَقَّقُ الْفَضْلُ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِدَقِيقِ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْحِنْطَةِ دَقِيقًا إلَّا أَنَّهُ مُجْتَمِعٌ؛ لِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْ التَّفَرُّقِ، وَهُوَ التَّرْكِيبُ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الدَّقِيقِ الْمُتَفَرِّقِ عُرِفَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ إلَّا أَنَّ الْحِنْطَةَ إذَا طُحِنَتْ ازْدَادَ دَقِيقُهَا عَلَى الْمُتَفَرِّقِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّحْنَ لَا أَثَّرَ لَهُ فِي زِيَادَةِ الْقَدْرِ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ أَزْيَدَ فِي الْحِنْطَةِ؛ فَيَتَحَقَّقُ الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ بِالتَّجْرِبَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا.
وَأَمَّا بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْمَبْلُولَةِ، أَوْ النَّدِيَّةِ بِالنَّدِيَّةِ، أَوْ الرَّطْبَةِ بِالرَّطْبَةِ، أَوْ الْمَبْلُولَةِ، أَوْ الْيَابِسَةِ بِالْيَابِسَةِ، وَبَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، وَالرُّطَبِ بِالرُّطَبِ، أَوْ بِالتَّمْرِ، وَالْمُنْقَعِ بِالْمُنْقَعِ، وَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ الْيَابِسِ، وَالْيَابِسِ بِالْمُنْقَعِ، وَالْمُنْقَعِ بِالْمُنْقَعِ مُتَسَاوِيًا فِي الْكَيْلِ فَهَلْ يَجُوزُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّهُ جَائِزٌ إلَّا بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّهُ فَاسِدٌ إلَّا بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ، وَالْعِنَبِ بِالْعِنَبِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّهُ بَاطِلٌ.
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكُفُرَّى بِالتَّمْرِ، وَالرُّطَبِ بِالْبُسْرِ مُتَسَاوِيًا، وَمُتَفَاضِلًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِعَدَمِ الْجِنْسِ، وَالْكَيْلِ إذْ هُوَ اسْمٌ لِوِعَاءِ الطَّلْعِ فَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْحَالِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى النُّقْصَانِ فِي الْمَآلِ، وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُهَا حَالًا وَمَآلًا، وَاعْتِبَارُ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ اعْتِبَارِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا فِي الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَإِنَّهُ يُفْسِدُهُ بِالنَّصِّ، وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ عِلَّةِ الرِّبَا أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ هِيَ الْأَصْلُ، وَالتَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ مَعَ الْيَدِ مُخَلِّصٌ إلَّا أَنَّهُ يَعْتَبِرُ التَّسَاوِيَ هاهنا فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ، وَهِيَ حَالَةُ الْجَفَافِ، وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي، وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّهُ يَنْقُصُ إذَا جَفَّ» بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحُكْمَ، وَعِلَّتَهُ، وَهِيَ النُّقْصَانُ عِنْدَ الْجَفَافِ فَمُحَمَّدٌ عَدَّى هَذَا الْحُكْمَ إلَى حَيْثُ تَعَدَّتْ الْعِلَّةُ، وَأَبُو يُوسُفَ قَصَرَهُ عَلَى مَحِلِّ النَّصِّ؛ لِكَوْنِهِ حُكْمًا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكِتَابُ الْكَرِيمُ، وَالسُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ أَمَّا الْكِتَابُ: فَعُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}، وَقَوْلِهِ- عَزَّ شَأْنُهُ- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَظَاهِرُ النُّصُوصِ يَقْتَضِي جَوَازَ كُلِّ بَيْعٍ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَقَدْ خُصَّ الْبَيْعُ مُتَفَاضِلًا عَلَى الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ؛ فَبَقِيَ الْبَيْعُ مُتَسَاوِيًا عَلَى ظَاهِرِ الْعُمُومِ وَأَمَّا السُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ فَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَيْثُ «جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» عَامًّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَتَقْيِيدٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ جِنْسِ الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِمَا وَأَوْصَافِهِمَا، وَكَذَلِكَ اسْمُ التَّمْرِ يَقَعُ عَلَى الرُّطَبِ، وَالْبُسْرِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِتَمْرِ النَّخْلِ لُغَةً فَيَدْخُلُ فِيهِ الرُّطَبُ، وَالْيَابِسُ، وَالْمُذَنَّبُ وَالْبُسْرُ، وَالْمُنْقَعُ.
وَرُوِيَ أَنَّ «عَامِلَ خَيْبَرَ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْرًا جَنِيبًا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ وَكَانَ أَهْدَى إلَيْهِ رُطَبًا» فَقَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْمَ التَّمْرِ عَلَى الرُّطَبِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ «نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ حَتَّى يَزْهُوَ أَيْ: يَحْمَرَّ، أَوْ يَصْفَرَّ، وَرُوِيَ حَتَّى يَحْمَارَّ، أَوْ يَصْفَارَّ»، وَالِاحْمِرَارُ، وَالِاصْفِرَارُ مِنْ، أَوْصَافِ الْبُسْرِ فَقَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْمَ التَّمْرِ عَلَى الْبُسْرِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَدَارُهُ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّقَلَةِ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ فِي مُعَارَضَةِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ صَيَارِفَةِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَدِّ الْآحَادِ عَلَى الْقِيَاسِ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَاوِيهِ عَدْلًا ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ، أَوْ بِأَدِلَّةٍ فَيَحْمِلُهُ عَلَى بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً، أَوْ تَمْرًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ كُلٍّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا فِي الْوَزْنِ سَوَاءٌ اتَّفَقَا فِي النَّوْعِ، وَالصِّفَةِ بِأَنْ كَانَا مَضْرُوبَيْنِ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ، أَوْ مَصُوغَيْنِ، أَوْ تِبْرَيْنِ جَيِّدَيْنِ، أَوْ رَدِيئَيْنِ، أَوْ اخْتَلَفَا لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا».
وَأَمَّا مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ مُتَفَاضِلًا فِي النَّوْعِ، وَالصِّفَةِ كَالْمَصُوغِ بِالتِّبْرِ، وَالْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ فَيَجُوزُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ، وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْجَيِّدِ، وَالرَّدِيءِ فِي الْقِيمَةِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ مِثْلًا بِمِثْلٍ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْوَزْنِ، وَكَذَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «وَزْنًا بِوَزْنٍ»، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «جَيِّدُهَا، وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ»، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجَوْدَةَ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا لَا قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا فَلَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ.
وَاللُّحُومُ مُعْتَبَرَةٌ بِأُصُولِهَا فَإِنْ تَجَانَسَ الْأَصْلَانِ تَجَانَسَ اللَّحْمَانِ فَتُرَاعَى فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا مُتَسَاوِيًا، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْأَصْلَانِ اخْتَلَفَ اللَّحْمَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَسَاوِيًا، وَمُتَفَاضِلًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا يَجُوزُ نَسِيئَةً لِوُجُودِ أَحَدِ، وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ، وَهُوَ الْوَزْنُ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: لُحُومُ الْإِبِلِ كُلِّهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مِنْ لُحُومِ الْعِرَابِ، وَالْبَخَاتِيِّ، وَالْهَجِينِ، وَذِي السَّنَامَيْنِ، وَذِي سَنَامٍ وَاحِدٍ جِنْسٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَكَذَا لُحُومُهَا، وَكَذَا لُحُومُ الْبَقَرِ، وَالْجَوَامِيسِ، كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلُحُومُ الْغَنَمِ مِنْ الضَّأْنِ، وَالنَّعْجَةِ، وَالْمَعْزِ، وَالتَّيْسِ جِنْسٌ وَاحِدٌ اعْتِبَارًا بِالْأُصُولِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اللُّحُومُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ اتَّحَدَتْ أُصُولُهَا، أَوْ اخْتَلَفَتْ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ لَحْمِ الْإِبِلِ بِالْبَقَرِ، وَالْبَقَرِ بِالْغَنَمِ مُتَفَاضِلًا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّحْمَيْنِ اسْتَوَيَا اسْمًا، وَمَنْفَعَةً، وَهِيَ التَّغَذِّي، وَالتَّقَوِّي فَاتَّحَدَ الْجِنْسُ فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.
(وَلَنَا) أَنَّ أُصُولَ هَذِهِ اللُّحُومِ مُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ فَكَذَا اللُّحُومُ؛ لِأَنَّهَا فُرُوعُ تِلْكَ الْأُصُولِ، وَاخْتِلَافُ الْأَصْلِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْفَرْعِ قَوْلُهُ الِاسْمُ شَامِلٌ، وَالْمَقْصُودُ مُتَّحِدٌ قُلْنَا: الْمُعْتَبَرُ فِي اتِّحَادِ الْجِنْسِ اتِّحَادُ الْمَقْصُودِ الْخَاصِّ لَا الْعَامِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَطْعُومَاتِ كُلَّهَا فِي مَعْنَى الطَّعْمِ مُتَّحِدَةٌ، ثُمَّ لَا يُجْعَلُ كُلُّهَا جِنْسًا وَاحِدًا كَالْحِنْطَةِ مَعَ الشَّعِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا مَعَ اتِّحَادِهِمَا فِي مَعْنَى الطَّعْمِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْنًى عَامًّا لَمْ يُوجِبْ اتِّحَادَ الْجِنْسِ كَذَا هَذَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الطَّيْرِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا، وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوزَنُ عَادَةً، وَعَلَى هَذَا الْبَابِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ حُكْمُهَا حُكْمُ أُصُولِهَا عِنْدَ الِاتِّحَادِ وَالِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّهَا مُتَفَرِّعَةٌ مِنْ الْأُصُولِ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِأُصُولِهَا، وَكَذَا خَلُّ الدَّقَلِ مَعَ خَلِّ الْعِنَبِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِمَا، وَاللَّحْمُ مَعَ الشَّحْمِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِ الِاسْمِ، وَالْمَنَافِعِ، وَكَذَا مَعَ الْأَلْيَةِ، وَالْأَلْيَةُ مَعَ الشَّحْمِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَشَحْمُ الْبَطْنِ مَعَ شَحْمِ الظَّهْرِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَكَذَا مَعَ الْأَلْيَةِ بِمَنْزِلَةِ اللَّحْمِ مَعَ شَحْمِ الْبَطْنِ، وَالْأَلْيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ سَمِينٌ، وَصُوفُ الشَّاةِ مَعَ شَعْرِ الْمَعْزِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ لِاخْتِلَافِ الِاسْمِ، وَالْمَنْفَعَةِ، وَكَذَا غَزْلُ الصُّوفِ مَعَ غَزْلِ الشَّعْرِ، وَالْقُطْنِ مَعَ الْكَتَّانِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَكَذَا غَزْلُ الْقُطْنِ مَعَ غَزْلِ الْكَتَّانِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ غَزْلِ الْقُطْنِ بِالْقُطْنِ مُتَسَاوِيًا؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ يَنْقُصُ بِالْغَزْلِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَبَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ.
(وَأَمَّا) الْحَيَوَانُ مَعَ اللَّحْمِ فَإِنْ اخْتَلَفَ الْأَصْلَانِ فَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ كَالشَّاةِ الْحَيَّةِ مَعَ لَحْمِ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ مُجَازَفَةً نَقْدًا، وَنَسِيئَةً؛ لِانْعِدَامِ الْوَزْنِ، وَالْجِنْسِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا أَصْلًا، وَإِنْ اتَّفَقَا كَالشَّاةِ الْحَيَّةِ مَعَ لَحْمِ الشَّاةِ، مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ اعْتَبَرَهُمَا جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ جَوَازَ بَيْعِ لَحْمِ الشَّاةِ بِالشَّاةِ الْحَيَّةِ مُجَازَفَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعَلَّلُوا لَهُمَا بِأَنَّهُ بَاعَ الْجِنْسَ بِخِلَافِ الْجِنْسِ.
(وَمِنْهُمْ) مَنْ اعْتَبَرَهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا، وَبَنَوْا مَذْهَبَهُمَا عَلَى أَنَّ الشَّاةَ لَيْسَتْ بِمَوْزُونَةٍ، وَجَرَيَانُ رِبَا الْفَضْلِ يَعْتَمِدُ اجْتِمَاعَ الْوَصْفَيْنِ: الْجِنْسِ مَعَ الْقَدْرِ فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُجَازَفَةً، وَمُفَاضَلَةً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى، وَجْهِ الِاعْتِبَارِ عَلَى أَنْ يَكُونَ وَزْنُ اللَّحْمِ الْخَالِصِ أَكْثَرَ مِنْ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَكُونُ اللَّحْمُ بِإِزَاءِ اللَّحْمِ، وَالزِّيَادَةُ بِإِزَاءِ خِلَافِ الْجِنْسِ مِنْ الْأَطْرَافِ، وَالسَّقَطِ مِنْ الرَّأْسِ، وَالْأَكَارِعِ، وَالْجِلْدِ، وَالشَّحْمِ فَإِنْ كَانَ اللَّحْمُ الْخَالِصُ مِثْلَ قَدْرِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ لَا يُدْرَى لَا يَجُوزُ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَاعَ الشَّاةَ الْحَيَّةَ بِشَحْمِ الشَّاةِ، أَوْ بِأَلْيَتِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اللُّحُومُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ كَيْفَ مَا كَانَ سَوَاءٌ اتَّفَقَ الْأَصْلَانِ، أَوْ اخْتَلَفَا بَاعَ مُجَازَفَةً، أَوْ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّاةِ بِلَحْمِ الشَّاةِ نَسِيئَةً لِوُجُودِ الْجِنْسِ الْمُحَرِّمِ لِلنَّسَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ الْخَالِصَ مِنْ جِنْسِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دُهْنِ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الدُّهْنُ الْخَالِصُ أَكْثَرَ مِنْ الدُّهْنِ الَّذِي فِي السِّمْسِمِ حَتَّى يَكُونَ الدُّهْنُ بِإِزَاءِ الدُّهْنِ وَالزَّائِدُ بِإِزَاءِ الزَّائِدِ خِلَافِ جِنْسِهِ وَهُوَ الْكُسْبُ، وَكَذَلِكَ دُهْنُ الْجَوْزِ بِلُبِّ الْجَوْزِ.
(وَأَمَّا) دُهْنُ الْجَوْزِ بِالْجَوْزِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ مُجَازَفَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بَيْعَ النِّصَالِ بِالْحَدِيدِ غَيْرِ الْمَصْنُوعِ جَائِزٌ مُجَازَفَةً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ، أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَى أَصْلٍ لَهُ ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهُوَ أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ مَأْكُولٍ بِجِنْسِهِ هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَالْجَوَازُ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ رُخْصَةٌ، وَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي بَيْنَ اللَّحْمِ الْخَالِصِ وَبَيْنَ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي عِلَّةِ الرِّبَا.
(وَأَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا (فَوَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِي تَجْوِيزِ الْمُجَازَفَةِ هاهنا احْتِمَالُ الرِّبَا؛ فَوَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ بِمُرَاعَاةِ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ فَلَزِمَ مُرَاعَاتُهُ قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الدُّهْنِ بِالسِّمْسِمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِيهِ الرِّبَا أَنَّ اللَّحْمَ مَوْزُونٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ الْمَنْزُوعُ أَقَلَّ مِنْ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ وَزْنًا، فَيَكُونَ شَيْءٌ مِنْ اللَّحْمِ مَعَ السَّقَطِ زِيَادَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي الْوَزْنِ فَيَكُونَ السَّقَطُ زِيَادَةً فَوَجَبَ مُرَاعَاةُ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ تَحَرُّزًا عَنْ الرِّبَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدُّهْنِ بِالسِّمْسِمِ، وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ كَذَا هَذَا، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ هَذَا بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ يَدًا بِيَدٍ فَيَجُوزُ مُجَازَفَةً وَمُفَاضَلَةً، اسْتِدْلَالًا بِبَيْعِ الْحَدِيدِ الْغَيْرِ الْمَصْنُوعِ بِالنِّصَالِ مُجَازَفَةً، يَدًا بِيَدٍ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ اللَّحْمَ الْمَنْزُوعَ وَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا- فَاللَّحْمُ الَّذِي فِي الشَّاةِ لَيْسَ بِمَوْزُونٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْزُونَ مَا لَهُ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ ثِقْلِهِ، وَلَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ ثِقْلِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ بِالْقَبَّانِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْلَال بِالتَّجْرِبَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فَاحِشٍ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ طَرِيقًا لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ.
(أَمَّا) الْوَزْنُ بِالْقَبَّانِ فَلِأَنَّ الشَّاةَ لَا تُوزَنُ بِالْقَبَّانِ عُرْفًا وَلَا عَادَةً، وَلَوْ صَلَحَ الْوَزْنُ طَرِيقًا لِوَزْنٍ؛ لِأَنَّ إمْكَانَ الْوَزْنِ ثَابِتٌ، وَالْحَاجَةَ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ اللَّحْمِ الَّذِي فِيهَا مَاسَّةٌ حَتَّى يَتَعَرَّفَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ بِالْجَسِّ وَالْمَسِّ بِالْيَدِ، وَالرَّفْعِ مِنْ الْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْحَيَّ يَثْقُلُ بِنَفْسِهِ مَرَّةً وَيَخِفُّ أُخْرَى فَيَخْتَلِفُ وَزْنُهُ، فَدَلَّ أَنَّ الْوَزْنَ لَا يَصْلُحُ طَرِيقَ الْمَعْرِفَةِ.
(وَأَمَّا) التَّجْرِبَةُ فَإِنَّ ذَلِكَ بِالذَّبْحِ، وَوَزْنُ الْمَذْبُوحِ لِيُعْرَفَ اللَّحْمُ الَّذِي كَانَ فِيهَا عِنْدَ الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ- لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَالسِّمَنَ وَالْهُزَالَ سَاعَةً فَسَاعَةً، فَلَا يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُ ثِقْلِهِ حَالَةَ الْعَقْدِ بِالتَّجْرِبَةِ.
(وَأَمَّا) الْحَزْرُ وَالظَّنُّ فَإِنَّهُ لَا حَزْرَ لِمَنْ لَا بَصَارَةَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ، بَلْ يُخْطِئُ لَا مَحَالَةَ، وَمَنْ لَهُ بَصَارَةٌ يَغْلَطُ أَيْضًا ظَاهِرًا وَغَالِبًا، وَيَظْهَرُ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ مَوْزُونًا، فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِرِبَا الْفَضْلِ، بِخِلَافِ بَيْعِ دُهْنِ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ بِالتَّجْرِبَةِ، بِأَنْ يُوزَنَ قَدْرٌ مِنْ السِّمْسِمِ فَيُسْتَخْرَجَ دُهْنُهُ فَيَظْهَرَ وَزْنُ دُهْنِهِ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، أَوْ يَعْصِرَ الْجُمْلَةَ فَيَظْهَرَ قَدْرُ الدُّهْنِ الَّذِي كَانَ فِيهَا حَالَةَ الْعَقْدِ، أَوْ يُعْرَفَ بِالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ أَنَّهُ كَمْ يَخْرُجُ مِنْ الدُّهْنِ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فَاحِشٍ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ؟ فَكَانَ ذَلِكَ بَيْعَ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ مُجَازَفَةً، فَلَمْ يَجُزْ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ بَاعَ شَاةً مَذْبُوحَةً غَيْرَ مَسْلُوخَةٍ بِلَحْمِ شَاةٍ- لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ مَوْزُونٌ، فَقَدْ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِجِنْسِهِ وَبِخِلَافِ جِنْسِهِ، فَيُرَاعَى فِيهِ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَوْزُونٍ لِمَا قُلْنَا، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الرِّبَا، فَجَازَتْ الْمُجَازَفَةُ فِيهِ وَلَوْ بَاعَ شَاةً حَيَّةً بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ مُجَازَفَةً جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، كَمَا لَوْ بَاعَ شَاةً حَيَّةً بِلَحْمِ الشَّاةِ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ اللَّحْمَ يُقَابِلُ اللَّحْمَ، وَزِيَادَةُ اللَّحْمِ فِي إحْدَاهُمَا مَعَ سَقَطِهَا يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ سَقَطِ الْأُخْرَى، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ حَيَّتَيْنِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَذْبُوحَتَيْنِ غَيْرِ مَسْلُوخَتَيْنِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ يَجُوزُ وَيَكُونُ اللَّحْمُ بِمُقَابَلَةِ اللَّحْمِ، وَزِيَادَةُ اللَّحْمِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مَعَ السَّقَطِ يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ سَقَطِ الْأُخْرَى وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَذْبُوحَتَيْنِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ يَجُوزُ، وَيُقَابَلُ اللَّحْمُ بِاللَّحْمِ، وَمُقَابَلَةُ اللَّحْمِ مِنْ الْمَسْلُوخَتَيْنِ بِمُقَابَلَةِ سَقَطِ الْأُخْرَى وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَذْبُوحَتَيْنِ غَيْرَ مَسْلُوخَتَيْنِ بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ مَسْلُوخَةٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ اللَّحْمِ مِنْ غَيْرِ الْمَسْلُوخَتَيْنِ مَعَ السَّقَطِ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَيَكُونُ رِبًا وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَسْلُوخَتَيْنِ بِشَاةٍ مَسْلُوخَةٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ جَمَعَهُمَا الْوَزْنُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُفَاضَلَةً وَمُجَازَفَةً، حَتَّى لَوْ كَانَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي الْوَزْنِ يَجُوزُ يَدًا بِيَدٍ.
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ، وَدُهْنِ الْكَتَّانِ بِالْكَتَّانِ، وَالْعَصِيرِ بِالْعِنَبِ، وَالسَّمْنِ بِلَبَنٍ فِيهِ سَمْنٌ، وَالصُّوفِ بِشَاةٍ عَلَى ظَهْرِهَا صُوفٌ، وَاللَّبَنِ بِحَيَوَانٍ فِي ضَرْعِهِ لَبَنٌ مِنْ جِنْسِهِ، وَالتَّمْرِ بِأَرْضٍ وَنَخْلٍ عَلَيْهِ تَمْرٌ، وَالْحِنْطَةِ بِأَرْضٍ فِيهَا زَرْعٌ قَدْ أُدْرِكَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا حَتَّى يَكُونَ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ مِنْ الْمَجْمُوعِ لِيَكُونَ الْمِثْلُ بِالْمِثْلِ، وَالزِّيَادَةُ بِمُقَابَلَةِ خِلَافِ الْجِنْسِ وَسَنَذْكُرُ أَجْنَاسَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا إذَا قُوبِلَ بَدَلٌ مِنْ جِنْسٍ بِبَدَلٍ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ بِبَدَلَيْنِ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ.
فَأَمَّا إذَا قُوبِلَ أَبْدَالٌ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِأَبْدَالٍ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَتُقْسَمُ الْأَبْدَالِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْأَبْدَالِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ قِسْمَةَ تَوْزِيعٍ وَإِشَاعَةٍ مِنْ حَيْثُ التَّقْوِيمِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا فَيَجُوزُ أَيْضًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ فَيُقَسَّمُ قِسْمَةَ تَصْحِيحٍ لَا قِسْمَةَ إشَاعَةٍ وَتَوْزِيعٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ، وَيُقْسَمُ قِسْمَةَ تَوْزِيعٍ وَإِشَاعَةٍ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ كَمَا فِي غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: إذَا بَاعَ كُرَّ حِنْطَةٍ وَكُرَّ شَعِيرٍ بِكُرَّيْ حِنْطَةٍ وَكُرَّيْ شَعِيرٍ جَازَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَتُصْرَفُ الْحِنْطَةُ إلَى الشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرُ إلَى الْحِنْطَةِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ يُصْرَفُ الدِّرْهَمُ إلَى الدِّينَارَيْنِ، وَالدِّينَارُ إلَى الدِّرْهَمَيْنِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا بَيْعُ رِبًا فَلَا يَجُوزُ كَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَالدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ قَابَلَ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ مُطْلَقًا، وَمُطْلَقُ مُقَابِلَةِ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ يَقْتَضِي انْقِسَامَ كُلِّ بَدَلٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِجَمِيعِ الْأَبْدَالِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ إذَا كَانَتْ الْأَبْدَالُ مُخْتَلِفَةَ الْقِيَمِ، اسْتِدْلَالًا بِسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ فِي غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ عَبْدًا وَجَارِيَةً بِفَرَسٍ وَثَوْبٍ وَقِيمَتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ يُقَسَّمُ الْعَبْدُ عَلَى قِيمَةِ الْفَرَسِ وَالثَّوْبِ، وَكَذَا الْجَارِيَةُ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ بِوَاحِدٍ مِنْ الْجُمْلَةِ عَيْبًا يَرُدُّهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْبَدَلَيْنِ، وَكَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّ وَاحَدٌّ مِنْهُمَا يَرُدُّهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْبَدَلَيْنِ عَلَى الْبَائِعِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ دَارًا فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الْبَدَلَيْنِ، فَكَانَ التَّقْسِيمُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا هُوَ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ فِي الْبِيَاعَاتِ كُلِّهَا، وَالِانْقِسَامُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا يُحَقِّقُ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا كُرَّ حِنْطَةٍ وَكُرَّيْ شَعِيرٍ بِكُرَّيْ شَعِيرٍ وَبِكُرِّ حِنْطَةٍ، فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا، عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الرِّبَا فَفِيهِ احْتِمَالُ الرِّبَا، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ كَبَيْعِ الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ مُجَازَفَةً.
(وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَلِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَطْلَقَا مُقَابَلَةَ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ، وَالْمُطْلَقُ يَتَعَرَّضُ لِلذَّاتِ لَا لِلصِّفَاتِ وَالْجِهَاتِ فَلَا يَكُونُ مُقَابَلَةَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَيْنًا، وَلَا مُقَابَلَةُ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ عَيْنًا، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفَضْلِ مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَيْنًا، وَلَمْ يُوجَدْ، أَوْ نَقُولُ: مُطْلَقُ الْمُقَابِلَةِ تَحْتَمِلُ مُقَابِلَةَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ كَمَا قُلْتُمْ، وَتُحْتَمَلُ مُقَابِلَةَ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُقَابَلَةُ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ، إلَّا أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الثَّانِي لَصَحَّ، فَالْحَمْلُ عَلَى مَا فِيهِ الصِّحَّةُ أَوْلَى وَقَوْلُهُ: مُوجَبُ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَبْدَالٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ انْقِسَامُ كُلِّ بَدَلٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى جَمِيعِ الْأَبْدَالِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ عَلَى الشُّيُوعِ مِنْ حَيْثُ التَّقْوِيمِ قُلْنَا: مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ فِي مَوْضِعٍ فِي مَسَائِلِ الْبِيَاعَاتِ فِي غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا مَا ثَبَتَ الِانْقِسَامُ مُوجَبًا لَهُ، بَلْ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْأَبْدَالِ لَأَنَّهُمَا لَمَّا أَطْلَقَا الْبَيْعَ وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَبْدَالٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مُقَابِلَةِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فِي التَّعْيِينِ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالْإِشَاعَةِ وَالتَّقْسِيمِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ، وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِالْإِشَاعَةِ، وَالرُّجُوعِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَثْبُتُ الِانْقِسَامُ عِنْدَ الْقِيمَةِ قَبْلَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا عُرِفَ.
وَقَوْلُهُ: فِيهِ احْتِمَالُ الرِّبَا، قُلْنَا: احْتِمَالُ الرِّبَا هاهنا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَيْنًا، كَمَا فِي بَيْعِ الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ يَلْزَمُ رِعَايَةُ الْمُمَاثَلَةِ الْمَشْرُوطَةِ، وَلَمْ تُوجَدْ هاهنا فَلَا تُوجِبُ الْفَسَادَ وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ دِينَارًا وَدِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَيَكُونُ الدِّينَارُ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَالدِّرْهَمَانِ بِالدِّينَارَيْنِ وَكَذَا إذَا بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِينَارَيْنِ وَدِرْهَمٍ يَجُوزُ عِنْدَنَا بِأَنْ يُجْعَلَ الدِّرْهَمَانِ بِالدِّينَارَيْنِ، وَالدِّينَارُ بِالدِّرْهَمِ وَكَذَا إذَا بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَتَكُونُ الْخَمْسَةُ بِمُقَابَلَةِ الْخَمْسَةِ، وَالْخَمْسَةُ الْأُخْرَى بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارِ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ جَازَ عِنْدَنَا، وَكَانَتْ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا، وَدِينَارٌ بِدِرْهَمٍ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ إنَّهُ إذَا بَاعَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَجُوزُ وَلَا بَأْسَ بِهِ، وَتَكُونُ الْمِائَةُ بِمُقَابَلَةِ الْمِائَةِ، وَالتُّسْعُمِائَةِ بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ، وَفِي أَحَدِهِمَا فَضْلٌ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ، وَفِي الْجَانِبِ الَّذِي لَا فَضْلَ فِيهِ فُلُوسٌ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ، فَقِيلَ: كَيْفَ تَجِدُهُ فِي قَلْبِكَ؟ قَالَ: أَجِدُهُ مِثْلَ الْجَبَلِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى مَا يُقَابِلُ الزِّيَادَةَ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ، إنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ الزِّيَادَةِ، أَوْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْهَا مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً جَازَ الْبَيْعُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ شَيْئًا قَلِيلَ الْقِيمَةِ كَفَلْسٍ وَجَوْزَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَا قِيمَةَ لَهُ أَصْلًا كَكَفٍّ مِنْ تُرَابٍ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا.